مسيحيّو لبنانَ الكبير والعروبة
قِصّةُ لبنان الكبير، هي قِصّةُ الوجودِ المسيحيِّ/الإسلاميِّ في دولةٍ واحدةٍ مستقلّة. قِصّةٌ جميلةٌ أعاقَت عروبةٌ معيّنةٌ كتابةَ بعضِ صفحاتِها. وإذا كان هذا الإشكالُ هَمدَ مع المسيحيّين، فإنه انفجَر مع شيعةٍ نَحَوا صوبَ القوميّةِ الفارسيّة. إشكاليّةُ مسيحيّي لبنان مع فكرةِ العروبةِ كانت تُشبِه إشكاليّةَ الشعوبِ الأوروبيّةِ مع فكرةِ أوروبا. هُم منها وخافوها قبلَ أن يَحتَضِنوها أواخرَ القرنِ العشرين. والمسيحيّون اللبنانيّون هم في العالمِ العربيِّ وجَفَلوا من العروبةِ وقد رفعوا لواءَها بدايةَ القرنِ العشرين وعادوا اليومَ يؤاخُونَها. يراهنُ المسيحيّون اللبنانيّون على تجاوزِ تَوجُّسِهم من العروبةِ مثلما نَجح الأوروبيّون في قَبولِ الفكرةِ الأوروبيّة. ورغم أنَّ العربَ سبَقوا الأوروبيّين في إنشاءِ "اتّحادٍ" سياسيٍّ ودفاعيٍّ هو جامعةُ الدولِ العربيّةِ سنةَ 1945، فالشعوبُ الأوروبيّةُ سَبقَت العربَ في تفعيلِ اتّحادِها الذي أَطلقَت فكرتَه سنةَ 1950 وأكْمَلتْه سياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا سنةَ 2000. كانت فكرةُ أوروبا في ذاكرةِ الشعوبِ الأوروبيّة تَستحضِرُ شبحَ الحروبِ والاجتياحاتِ والمجازرِ وملايينِ القتلى، وكانت تَخشى أبعادَها القوميّةَ والعقائديّةَ أيضًا، إلى أن تَبلوَرت فكرةُ أوروبا جديدةٍ، هي أوروبا الحسناءُ. أوروبا الإنسانُ والسلامُ والتضامنُ والتقدّمُ والشراكة. أوروبا الدولُ المستقلّةُ والسيّدةُ من جهة، والمتّحِدةُ بحريّةٍ وقناعةٍ من جِهة أخرى. أوروبا التي، من دونِ حدودٍ، تَحترم حدودَ بعضِها البعض. أوروبا التي تخلّت عن عُملاتِها المتفرِّقةِ واعتَمدَت عُملةً واحِدة: الـــ"أورو". أوروبا التي تعاهَدت دولُها بعدمِ الاحتكامِ إلى العنفِ والحربِ في ما بينَها. إنه إنجازٌ حضاريٌّ وسياسيٌّ وأمنيٌّ واقتصاديٌّ هائلٌ وفريدٌ في علمِ الدستورِ والعَلاقاتِ الدوليّة. دولٌ تتّحِدُ من دونِ أن تَتنازلَ عن قوميّاتِها وخصائصِها وقرارِها الوطنيّ. واتحادٌ قائمٌ بذاتِه كدولةٍ جامعةٍ تُنظّمُ العلاقاتِ بين سبعٍ وعشرينَ دولةً ولا تَـمُسُّ بمصالحِ أيِّ دولةٍ منها. إبداعٌ استدعى الاستعانةَ بالحضارةِ لا بالإرادةِ فقط. حتّى أن شعوبَ أوروبا الشرقيّةِ التي خَرجت في التسعينات من سيطرةِ الاتّحادِ السوفياتيِّ مُتلهِّفةً إلى الاستقلالِ والحرّية، فَضّلت الانضمامَ فورًا إلى الاتَحادِ الأوروبيّ، إذ وجدت تَحرّرَها في أوروبا وليس في عُزلتِها. إلى مثلِ هذه العروبةِ يَتطلّعُ مسيحيّو لبنان وسائرُ مسيحيّي العالمِ العربي، بل إليها يَصبو جميعُ العرب. كان المسيحيّون اللبنانيّون حاضرين فكريًّـا ونفسيًّا للتعاطي مع العروبةِ بإيجابيّةٍ بعد سقوطِ السلطنةِ العُثمانيّة، وهُم كانوا روّادَها في لبنان ومِصر وأوروبا. وجاء قيامُ دولةِ لبنان الكبير ليُعطيَهم الثقةَ والأمنَ والحرّيةَ للانفتاحِ أكثرَ على العروبةِ الحضاريّة. وكانت نُخبُ دولةِ لبنان الكبير تأنَس إلى العروبة وتَتهيأُ للتنسيقِ مع الكياناتِ العربيّةِ الناشئة. لكنَّ هذا الانفتاحَ نفَّره عاملان: 1) تشكيكُ حكّامِ سوريا، على اختلافِ أنظمتِها، بكيانِ لبنان لاسيّما بأطرافِه الأربعة. 2) وصعودُ مشاريعِ الوِحدةِ العربيّة ببعدِها العقائديّ والإسلاميّ. وإذا كان الرئيس جمال عبد الناصر اتّفَق مع الرئيسِ فؤاد شهاب سنةَ 1959، وتَفهّمَ الخصوصيّةَ اللبنانيّةَ وحَرِصَ على سلامةِ لبنان وحِيادِه، فحكّامُ سوريا أمْعَنوا في سياسةِ العَداءِ تجاه لبنان رغمَ الوِدِّ اللبنانيّ. أصلًا، مشكلةُ المسيحيّين اللبنانيّين ليست مع العربِ عمومًا، بل مع أنظمةٍ عربيّةٍ مشرقيّة، وبخاصةٍ سوريا، التي تَتدخّلُ تِباعًا في شؤونِ لبنان وتَفتعلُ الفتنَ بين طوائفِه وتَغتالُ شخصيّاتِه وتَحتلُّ أراضيه. بل إنَّ مشكلةَ المسيحيّين اللبنانيّين هي مع مُفكّرين مسيحيّين يَحمِلون فكرًا عقائديًّا وِحدويًّا وعروبيًّا زايدوا فيه على المسلمين. هؤلاءِ أيضًا هَشّلوا المسيحيّين اللبنانيّين، الشغوفين باستقلالِ لبنان. إن المسيحيّين اللبنانيّين مصمِّمون على احتضانِ العروبةِ الحضاريّةِ والسلميّة، تُشجِّعُهم ثلاثةُ عوامل على الأقل: 1) القياداتُ اللبنانيّةُ، وخصوصًا السنيّةُ، التي كانت تُبشّرُ بالعروبةِ، خاضَت معموديّةَ الدمِ دفاعًا عن كيانِ لبنان وسيادتِه واستقلالِه وحيادِه والشراكةِ الوطنيّة. 2) انفتاحُ الدولِ العربيّةِ عمومًا على البطريركيّةِ المارونيِّة وتعاطيها المباشَر مع البطريرك على أساسِ أنّه مرجِعيّةٌ وطنيّة لا دينيّةٌ فقط. 3) التفافُ الدولِ العربيّةِ الشقيقةِ حولَ لبنان. وها هي هذه الدولُ تُعلن محبَّتها لبنان واحترامَها سيادتَه واستقلالَه، وتَفتح أبوابَها أمام شعبِه للعملِ والسكنِ وتَهُبُّ لمساعدتِه. وجاءت مبادراتُهم الأخيرةُ بعد كارثةِ المرفأ لتكشِفَ مدى ألـمِهم لما حلَّ ببيروت "حبيبتِهم الأولى"، فرأيناهم يُعمِّرون أحياءَها، ويرممّون شوارعَها، ويُعيدون تَشييدَ أهراءات مرفئِها، ويُرسلون المساعداتِ الطِبيّةَ والغذائيَةَ، وفي كلِّ ما يَفعلون عيونُهم تَدمَع وقلوبُهم تَعتَصِر. هذه هي العروبةُ الأصيلةُ والوِجدانيّةُ التي لا تميّزُ بين إنسانٍ وآخَر وبين دينٍ وآخر. يَحصُل كلُّ ذلك عشيّةَ مئويّةِ لبنان الكبير. وتَشاءُ الصُدَفُ أن يولدَ هذا الوطنُ من مآسي الحربِ العالميّةِ الأولى، ويَستقِلَّ عَبرَ تطوّراتِ الحربِ العالميّةِ الثانية، ويُحيي مئويّتَه الأولى مع الثورةِ ومع كارثةِ مَرفئِه وعاصمتِه بيروت ومع وباءِ "كورونا". وإن كانت الأوطانُ تولد من الوجَع، فلا يجوزُ أن تحيا دائمًا في الوجَع. حان الوقتُ للّبنانيّين أن يَختاروا السلامَ والحضارةَ والرُقيّ. حقّا نَستحِق. وحانَ الزمنُ لأن يولدَ مشروعٌ عربيٌّ جامعٌ على غرارِ المشروعِ الأوروبيِّ تحت عُنوان "تضامنٌ عربيٌّ واستقلالٌ وطني". ولِـمَ لا يكون اللبنانيّون، لاسيّما المسيحيين منهم، روّادَه من موقعِ الحياد؟ هناك مؤشِّراتٌ عديدةٌ توحي بوجودِ فرصٍ لخلقِ عروبةٍ على الطريقةِ الأوروبيّة، نورِدُ بعضَها: مشروع "نيوم" ورؤيةُ 2030 في السعوديّة، المنطقةُ الاقتصاديّةُ لقناةِ السويس في مصر، إطلاقُ القمرِ الاصطناعيّ "مِسبار الأمل" في الإماراتِ العربيّةِ المتّحدة، التجربةُ الديمقراطيّةُ وصندوقُ التنميّةِ العربيُّ في الكويت، مشاريعُ إنماءِ العقَبة والبحرِ الميت في الأردن. وهناك تجربةٌ عربيّةٌ مؤسساتيّةٌ تحاكي التجربةَ الأوروبيّةَ هي "مجلسُ التعاونِ الخليجي". سنةَ 1920 ناضَل المسيحيّون إلى جانبِ البطريركيّةِ المارونيّةِ لتأسيسِ دولةِ لبنان الكبير، وتشاءُ الأقدارُ أن تَعِنَّ على بالِـهم اليومَ إعادةُ إطلاقِ الفكرةِ العربيّةِ الحضاريّة، عَلّهمُ يُوفَّقون في مطلَعِ هذا القرن لأنَّ عددًا من الكياناتِ العربيّةِ معرَّضةٌ للخطرِ وتحتاجُ إطارًا عامًّا يَحتضنُها لئلا تَتشَرذمَ.