عَقدُ ولاءٍ لا عقدٌ سياسيّ
جاع اللبنانيّون في لبنانَ المصغَّر (المتصرفيّة) ويَجوعون اليومَ في لبنانَ الطبيعيّ (لبنانُ الكبير). المقارنةُ لا تُبطِل مطلقًا خِيارَ لبنانَ الكبير، لكنّها تعني: 1) أنَّ المدى الجغرافيَّ (الأقضية الأربعة) لم يَـحُلْ دونَ أنْ تَتجدَّدَ المآسي لأنَّ جمال باشا تَقمَّصَ وانتَحلَ جِنسيّاتٍ أخرى، بما فيها الجِنسيّةُ اللبنانيّة. فلبنانُ خرجَ من حربٍ ودَخل في حروبٍ، وخَرج من انتدابٍ حضاريٍّ ودَخل في احتلالاتٍ همجيّة. 2) أنَّ الجغرافيّا ليست دائمًا الحلّ، بل الحوكمةُ الرشيدةُ. فالجوعُ في حربِ 1914 لم يكن بسببِ ضيقِ الجبل على بَنيه بل بسببِ تَضييقِ الاحتلالِ عليهم. 3) أنَّ التجويعَ، سابقًا وحاليًّا، جُزءٌ من مشروعِ تهجيرِ قوى "الممانعةِ اللبنانيّة"، تلك القوى التي واجَهت الاحتلالَ العُثمانيَّ، وتواجِه اليومَ مشاريعَ القضاءِ على استقلاليّةِ لبنان ووِحدتِه وهوّيتِه في هذا الشرق. خارجَ هذه الممانعةِ لا ممانعةَ ولا مقاومةَ، بل تبعيّةٌ. في عقودِ القرنِ الماضي جَرت محاولاتُ تغييرِ لبنان من خلال ِكيانِه ففَشِلت، ثم محاولاتُ تغييرِه من خلال تعديلِ دستورِه فنجَحت جُزئيًّا، والآن تجري محاولاتُ تغييرِ لبنان من خلالِ ديمغرافيّتِه ونظامِه وميثاقِه. لكنَّ اللبنانيّين المؤمنين بالشَراكةِ ووِحدةِ لبنان، وهُمُ الأكثريّةُ الكبرى، سيتَصَدَّون لها. هناك حاليًّا من يَتقصّدُ خَلقَ أجواءٍ "تُحرِّضُ" القِوى الحيّةَ في لبنان على الهِجرةِ الجماعيّةِ ليَتمَّ وضعُ اليدِ على البلد. أي، عِوَضَ أن يغيّروا لبنانَ الكبير يُهشِّلون "لبنانيّي لبنانَ الكبير". وإِذا بالتسويةِ الرئاسيّةِ وهذا الحكمِ وحكوماتِه ثم تفجيرِ المرفأِ عواملُ تخدُمُ هذا المشروع لذا نحن مَدعوّون إلى أن نقاومَ مشروعَ "التجويعِ السياسي" بكلِّ الوسائلِ التي تَفرِضُها حاجةُ المقاومة. فإمّا أن تتولّى الدولةُ، وتحديدًا الجيشُ اللبناني، مواجهةَ مؤامرةِ التجويع وإلا فالشعبُ بقيادةِ مرجِعيّتِه التاريخيّةِ سيضُطَرُّ إلى أن يُحافظَ على وجودِ لبنان بخصوصيّتِه. الأنظارُ تَتّجهُ إلى الجيشِ اللبنانيِّ لا ليتَسلّمَ الحكمَ ـــ وجيشُنا ليس انقلابيًّا ـــ بل ليحميَ الناسَ ويُطمِّئنَهم. يرافقُ هذا الجوَّ التجويعيَّ والتهجيريَّ عمليّةٌ مثلّثةُ الأضْلُع: غسلُ الأدمغةِ، خلقُ معاييرِ حقٍّ وباطلٍ جديدةٍ، وحصرُ الوطنيّةِ بمعاداةِ إسرائيل فقط. بدأت هذه العمليّةُ في التسعيناتِ الماضيةِ مع النظامِ الأمنيِّ السوريِّ/اللبنانيِّ، وطُبِّقَت على اللبنانيّين عمومًا، وعلى مؤسّسةِ الجيشِ اللبنانيّ خصوصًا، فابْتدَعَ ذاك النظامُ "عقيدةً" للجيشِ فيما ليس للجيوشِ في الأنظمةِ الديمقراطيّةِ عقيدةٌ سوى دستورِ الدولة. كأنَّ جيشَ فؤاد شهاب كان جيشًا غيرَ وطنيٍّ، ولا يَعرفُ العدوَّ من الصديق. والمثيرُ للشُبهةِ أنّهم ربطوا دورَ الجيشِ اللبناني بالعدوِّ الإسرائيليّ فقط، ومَنعوه بالمقابلِ من مقاومةِ إسرائيل في الجنوب. احتكروا قرارَ العملِ العسكريِّ هناك ليُبرِّروا استمرارَ اقتناءِ السلاح. من جِهتنا، لن نقعَ في هذا الفَخّ. نحن الأكثريةَ المتعدِّدةَ الطوائف، نحن نُحدّدُ معاييرَ الوطنيّةِ والعمالةِ والخيانة. نحن نُحدّدُ العدوَّ وهو أكثرُ من واحد. ونحنُ نحدّدُ الأصدقاءَ في الشرقِ والغرب. نحن نُحدِّدُ الحربَ والسلام. نحن نُحدِّدُ ذلك لأنّ معيارَنا هو الدستورُ اللبنانيُّ والشرعيّةُ والشرائعُ الدوليّةُ. ولأنّنا - عبرَ تاريخِنا وتجربةِ حكمِنا قبلَ لبنانَ الكبير وأثناءَه - أثبَتنا أنَّ معاييرَنا هي الصحيحة ُوتَصُبُّ في مصلحةِ جميعِ اللبنانيّين. وشهداؤنا الذين سَقطوا من أجلِ لبنانَ الكرامةِ والحرّيةِ شهودٌ على وطنيّةِ خِياراتِنا ومعاييرنا. من هنا أنَّ أيَّ مشروعِ حلٍّ أو تسويةٍ للقضيّةِ اللبنانية يتخطّى هذه الثوابتَ اللبنانيّةَ التاريخيّةَ ويَتناقضُ مع دولةِ لبنانَ الكبير ومُبرِّرِ إنشائها، مردودٌ من دونِ شكرٍ إلى أصحابِه أكانوا أشقّاءَ أو أصدقاء. نحن مصمّمون على رفضِ ومقاومةِ وإسقاطِ كلِّ ما يَـمُسُّ بتوازنِ لبنان. ليس لبنان عِقارًا للمقايضةِ ولا أُضْحيةً لمصالحاتٍ إقليميّةٍ ودولية. ويُخطئ من يَظُنُّ أنّنا نَسينا أصولَ المقاومة، ويَغلَطُ من يعتقدُ أنَّ دولةَ لبنان الكبير كانت صُدْفةً سياسيّةً أو "هديّةً" فرنسيّة. لم تكن فرنسا مُتحمِّسةً للكيانِ اللبنانيِّ المستقِلّ، ورَوَّجَت لدولةٍ سوريّةٍ كبيرةٍ تضُمُّ كلَّ الجُزءِ المخَصَّصِ لها في اتفاقيّةِ سايكس/بيكو (منشورات الأبّ اليسوعي هنري لامنس). وحتّى بعد إنشاءِ دولةِ لبنان، اقترحت فدراليّةً بين لبنانَ والدويلاتِ السوريّةِ الخمس. غَضِبَ البطريرك الياس الحويّك ودعا الجنرال غورو إلى اجتماعٍ في الديمان (23 أيلول 1921) وحَصَل بينهما نقاشٌ حادٌّ أدّى إلى تعديلِ الموقفِ الفرنسيّ (مذكرات الجنرال غورو ص 128). أكثرُ: لولا كفاحُ البطريركِ الحويّك ورفاقِه، لكانَ مصيرُ مسيحيّي لبنان شبيهًا، ربّما، بمصيرِ مسيحيّي كيليكيا والأرمن. فسنةَ 1921 انسحَبت فرنسا فجأةً من تلك المنطقةِ وتركت المسيحيّين والأرمنَ لمصيرِهم المأسَاويّ. ولولا كِفاحُ الوفودِ اللبنانيّةِ بقيادةِ البطريرك الحويّك إلى مؤتمرات الصلح، لكان لبنانُ عَرفَ مصيرَ أرمينيا. فقيامُ دولةِ أرمينيا المستقلّةِ ظلَّ حِبرًا على ورقٍ رغم أنّ مؤتمر "سيڤر" سنة 1920 أقرَّ إقامتَها وحمايتَها. يومَها وحدها التي نشأت: دولةُ لبنان وبالمناسبة: ما الذي منع سائرَ المكوّناتِ اللبنانيّة ــــ ولو رمزيًّا ـــ من إحياءِ المئويّةِ الأولى لتأسيسِ دولةِ لبنان فلا يبقى محصورًا بمكوّنٍ واحد؟ وبالمناسبةِ أيضًا: لو لم تُبادِر البطريركيّةُ المارونيّةُ مع أصدقائِها إلى النضالِ من أجل تأسيسِ دولةِ لبنان الكبير، هل كان أحدٌ غيرُها بادر؟ وهل كان لـ"لبنانَ الكبير" أن يكون؟ وبالمناسبةِ أيضًا وأيضًا: لبنانُ الكبير حَفَظ الجَنوبَ والبقاعَ أكثرَ ممّا حَفَظ جبلَ لبنان. إذ لو أُلحِقَ الجَنوبُ والبقاعُ سنةَ 1920 بسوريا، لكانت إسرائيلُ ضَمَّتهُما لدى نشوئِها سنةَ 1948 أو بالتأكيدِ أثناءَ حربِ 1967 مثلما ضَمّت الجولان. إذ أذكِّرُ بهذه الحقائق التاريخيّةِ، وقد يَعتبرها البعضُ عَصبًا رجعيًّا، فلأنَّ ما يجري في الكواليس يَتجاهلُ خصوصيّةَ لبنان. فبين رفْضِ لبنانَ بشارة الخوري ورياض الصلح، ولبنانَ الميثاقِ الوطنيِّ والطائف، وبين من يَلهو بعقدٍ سياسيٍّ جديدٍ ومؤتمرٍ تأسيسيٍّ، نَشعر أنَّ التاريخَ قيمةٌ مُهمَلةٌ وكذلك الشهداء. رغم كلِّ الشوائب التي اعتَرت صيغةَ الشراكةِ الوطنيّة، لا يجوز التضحيّة بها، وقد فاوضْنا وناضَلنا واستُشهِدنا لنعيش معًا مسلمين ومسيحيّين في دولةٍ سيّدةٍ، حرّةٍ، ديمقراطيّةٍ، تَفصِلُ بين الدين والدولة. دعوا الصلاحيّات جانبًا، الأجيالُ الجديدةُ تُطالب بوطنٍ يؤمِّن بقاءَها وتقدُّمَها لا بصلاحيّاتٍ دستوريّةٍ تَختلف عليها الطوائف. (سنَنتصر).