الــكِــيــانُ الــمُــقــاوِم
قبلَ أن أستقِرَّ على هذا العنوان ورَدت على خاطري عناوينُ شتّىقبلَ أن أستقِرَّ على هذا العنوان ورَدت على خاطري عناوينُ شتّى منها: "الكِيانُ المخْذول"، و"الكيانُ المقهور"، و"الكيانُ المفخَّخ"، و"الشعبُ المحتار"، و"الدولةُ الـمُحال"، و"الكيانُ الناجح والدولةُ الفاشلة". لكنّني فضَّلت إهمالَ هذه العناوينَ المتشائمةِ، على واقعيّتِها، إلى عنوانٍ يَنِمُّ عن شخصيّةِ الشعبِ اللبنانيّ وواقعِ الكِيانِ اللبنانيّ. فنحن شعبٌ مقاوِمٌ قبل نشؤِ الكِيان، ونحن كِيانٌ مقاوِمٌ قبل نشؤِ الدولة. ونحن حالةٌ استقلاليّةٌ قبل الاستقلال. نحن أهلُ الحرّية في هذا الشرق. كانت مقاومتُنا من أجلِ القيمِ والحضارةِ والحرّيةِ والكرامة، دفاعًا عن نمطِ حياة. إنها مقاومةٌ في سبيلِ الوجودِ قبلَ الحدود. فلولا تعقيداتُ الشرقِ الدينيّةُ، لكانت حدودُ لبنانَ أوسعَ وأبعَد، كما كادت أن تكونَ أضيقَ لولا رهانُ الكنيسةِ المارونيّة على "اللبْنَنة" (تجربةُ التعايشِ المسيحيّ / الإسلاميّ). تَقدَّمت لَــبْــنَنةُ الكيان وأخْفقَت لَــبْــنَنةُ الدولة وانتكسَت لَــبْــنَنةُ المجتمع. وأصلًا، أنْشأنا هذا الكيانَ كي يَحتضِنَ هذه القيمَ ويُجسِّدَ القضيّةَ التاريخيّة في إطارِ دولةِ القانونِ فيكون مثالًا يُحتذى به في هذا الشرق. وتاليًا، يَفقِد الكيانُ جوهرَه خارجَ القيمِ والقانونِ والقضيّة. ولئلّا يَحصُلَ التباسٌ، إنَّ القضيّةَ التاريخيّةَ هي ضمانُ الوجودِ المسيحيِّ الحرِّ والآمِن ودورِه السياسيِّ مع الدروزِ والمسلمين اللبنانيّين. ويَخسِرُ المسيحيّون أيضًا رونقَ دورِهم بعيدًا من الشريكيْن الدُرزيِّ والـمُسلم. غيرَ أن المحافظةَ على هذه القضيّةِ تَفرِضُ على المسيحيّين اللبنانيّين أنْ يَــتَّبِعوا سلوكًا ذاتيًّا فَضيلًا وراقيًّا يُبرِّرُ دورَهم وخصوصيَّتَهم داخلَ الكيان. النضالُ التاريخيُّ لا يُغني عن النضالِ اليوميّ. وتَفرِضُ القضيّةُ على المسلمين اللبنانيّين أيضًا عدمَ اعتبارِ تسليمِهم بالكيانِ اللبنانيّ حُجّةً لانتزاعِ دورِ المسيحيّين. الانتزاعُ المتبادَلُ نقيضُ الشراكة. قبل نشؤِ مفهومِ الحدودِ الدوليّةِ تَعلَّقنا بالأرضِ مساحةً لممارسةِ هذه القيمِ، لكنَّ الإنسانَ ظلَّ الأولويّةَ المطلَقة. هو يَـخُطُّ حدودَ الأرضِ لا الأرضُ تَرسُم حدودَ دورِه. وبحكمِ تسوياتِ الحروب، ليست كلُّ حدودٍ دوليّةٍ حدودًا قوميّة، إنّما هي حدودٌ قانونيّةٌ لتنظيمِ العَلاقاتِ الدوليّةِ وتحديدِ سيادةِ الدولة، ويجدرُ احترامُها. لقد وَجدت الجماعاتُ اللبنانيّةُ في هذه الأرضِ اللبنانيّة، أكان في زمن إمارةِ الجبل أم في مرحلةِ الكيانِ الحاليِّ، البيئةَ الديمغرافيّةَ الأفضلَ في هذا الشرق للعيشِ بكرامةٍ وسلام. لولا الكيانُ اللبنانيُّ لكانَ نِصفُ اللبنانيّين فاقِدِي الشخصيّةِ الذاتيّةِ وذائبينَ في رعايا دولٍ أُخرى. هذه الجدليّةُ القائمة حولَ القيمِ بين تاريخِ لبنان وجغرافيّتِه تُلزِمنا الدفاعَ عن الأرضِ على أساسِ أنّها بيتُنا لا وطنُنا فقط، وأنَّ لبنانَ قضيّةٌ لا دولةُ فحَسْب. هذه القيمُ تَنحسِرُ تدريجًا لمصلحةِ التطرّفِ والتعصُّبِ والجُــبْن. هكذا توسَّعت الفروقاتُ الاجتماعيّةُ والحضاريّةُ بين الجماعاتِ اللبنانيّةِ عِوض أنْ تَتقلَّصَ، وقدّ مَرَّ نحوَ مئةِ عامٍ على توحيدِ لبنان. وبَرزت مشاريعُ سلطويّةٌ مخالِفةٌ لفكرةِ نشوءِ لبنان، ودخلت أنماطُ حياةٍ غيرُ مألوفةٍ لبنانيًّا على بعضِ مذاهبِنا ومناطقِنا فبدا لبنانُ عالــمَــيْن ومجتمعَين. هكذا ضَعُفَت ثقةُ اللبنانيّين بالوِحدة والتعايشِ والانتماء. شَعروا بالغُربةِ الداخليّة، ولاحظوا أنَّ بلدَهم يَفقِدُ، امتحانًا بعد امتحان، مبرِّرَ وجودِه المميَّز والعواملَ التي أدّت إلى نموّهِ ورقيِّه وتقدّمِه. وفي اعتقادي، إنَّ جُزءًا وافرًا من الهِجرةِ، اليومَ، تعود أسبابُه إلى هذه "الضائقةِ الوطنيّة" أكثرَ ما تعود إلى الضائقةِ المعيشيّة. إنَّ هناك ترابطًا عُضويًّا بين تغيّرِ هويّةِ لبنانَ وبين جَوازِ السفَر. وأصلا، إنَّ أحدَ أهدافِ الحربِ اللبنانيّةِ التي بدأت فعليًّا سنةَ 1975، هو تخفيضُ مستوى الحضارةِ في لبنان ليَشعُر أهلُ الحضارةِ بالغُربةِ فــيَغترِبون. لذا، عنوانُ "الكِيان المقاوِم" يُحاكي الحقيقةَ اللبنانيّةَ ويَنهَرُ واقعَها المتراجِع. فمقاومةُ الكِيان مزدوجةٌ: مِن جهةٍ هو يقاوِمُ كلَّ معتدٍ ومحتلٍّ وطامعٍ خارجيّ، ومن جهة أخرى يُــقاوم شعبَه في الداخل أنْ يَتَّحدَ ويمارسَ سيادتَه واستقلالَه. وأصلًا، لو أَجمعَ اللبنانيّون على محبّةِ بلادِهم والولاءِ لها دونَ سواها لما كنّا ضحيّةَ المطامعِ الخارجيّة، ولـما كنّا بعدَ مئةِ سنةٍ على تأسيسِ دولةِ لبنان نَسأل عن هويّتِنا ونظامِنا وميثاقِنا. مرّةً أُخرى يَـمُرُّ لبنانُ اليومَ في مرحلةٍ انتقاليّةٍ طويلةِ الأَمد، ومنها تَنحَدر الأزَماتُ بانتظارِ مؤتمرٍ دوليٍّ يَرعى إعادةَ التكوين.