كُـــلّــنــا مسـيـحـيـّــون بالقِيامَـــة
الأمواتُ الّذين مِن بينهِم قامَ المسيحُ، لم يَكونوا يهودًا فقط. كانوا يَنتمون إلى كلِّ الأديانِ والطقوسِ والبِدعِ المؤمِنةِ باللهِ أو بالأَوثان. قامَ المسيحُ من بينِ كلِّ البَشرِ المائتِين منذُ الخليقةِ حتى اليومِ وما بعدَه. القيامةُ ليست هُنيهةَ الحدَثِ بل حالةٌ دائمةٌ. فقيامةُ المسيحِ، بالتالي، هي مِن أجلِ كلِّ العالَم بِمَن فيهم اليهودُ، وضِمنَهم أولئك الّذين حاكمُوه وحَكمُوه وعذَّبوه وجَلجَلوه وصَلبوه. كذا، تَعتبرُ المسيحيّةُ كلَّ البشرِ مسيحيّين بالقيامةِ وإنْ كانوا غيرَ مسيحيّين بالولادةِ وبالعبورِ الدُنيويّ. فكونُ المسيحِ هو الله، فكلُّ البشرِ هُم أبناؤه وليس المسيحيّون فقط، وإلا لا يكون إلَهًا، ولا يكونُ اللهُ "جامِعَ الكُلّ". هذا معنى وصيّةِ المسيحِ بأنْ "أَحِبّوا أعداءَكُم" لأنّهم حَـقًّا ليسوا أعداءنا: هُم نحنُ ونحن هُم. هُم مسيحيّون لا نَعرِفُهم، وهُم مسيحيّون لا يَعرِفون أَنفُسَهم كذلك. آهٍ لو كانوا يَعرِفون. لَم يَقُم المسيحُ من الموتِ ليُسجِّلَ انتصارًا. وعلى مَن؟ مَن يَملِكُ التوازنَ الإستراتيجيَّ مع يسوعِ الإله؟ جاءت القيامةُ بُرهانًا آخَرَ على ألوهيَّتِه للشعوبِ كافةً في جميعِ الأزمنةِ لا لزمنِه وبيئتِه فقط. لَم يَقُم المسيحُ ليؤكّدَ أنَّ الحياةَ أقوى من الموتِ بل أنَّ الحقَّ أقوى من الباطِل وأنَّ الأبديّةَ أقوى من الحياة. القيامةُ قَدَّمت للإنسانِ بديلاً عن الحياةِ والموتِ ورَفعَته إلى مستوى التطوّرِ الروحيِّ المُنافي لنظريّاتِ التطوّر الماديِّ التي أَطلقَها فلاسِفةٌ كــ"داروين" و"نيتشه". قيامةُ يسوع دَمّرت مَنطقَ اليهودِ ونُكرانَهم إيّاه وظُلمَهم المَقصود. اليهوديّةُ بعدَ المسيحِ أَصبَحَت وثنيّةً لأنَّ اللهَ من دونِ الاعترافِ بيسوعِ ليس الله. لذا، إنَّ خروجَ المسيحِ من القَبرِ أعاد موسى إلى مِصرَ فورًا، وهو أصلاً لم يَطأ أرضَ أورشليم. في هذا السياقِ، هل الآبُ والروحُ القُدُس أَقاما يسوع أم أنَّ يسوعَ الابنَ أقامَ نفسَه؟ هذا التمييزُ بين الأقانيمِ الثلاثةِ مسموحٌ لتبسيطِ ديناميّةِ الله وترشيدِها للعقلِ البشريّ، ولكنّه غيرُ موجودٍ في الحالِ الإلهيّةِ حيثُ لا كُلاًّ ولا جُزءًا ولا حَواصلَ ولا كسورَ. الآبُ هو الابنُ والاثنانِ هما الروحُ القُدس. هكذا، كان يسوعُ الابنُ حاضرًا مع الروحِ القُدُس حين حَلّ على مريمِ العذراء، وكان الآبُ والروحُ القُدُس حاضرَيْن مع يسوعِ الابنِ على الصليب، والثلاثةُ كانوا في فعلِ القيامة. ونحن، نكون في القيامةِ بقَدَرِ ما نُسيطر على الشكِّ الطبيعيِّ الذي فينا. ولأنَّ القيامةَ ليست جُزءًا من منطقِ الطبيعةِ والمادةِ ولا بمستوى عقلِ البَشَر، شكُّنا مبَرَّرٌ. ولذلك تقصَّد المسيحُ أنْ يَظهرَ إحدى عشرةَ مرّةً، بعدَ قيامتِه، لأُمِّه وللمَجدليّةِ ولرُسلِه ولتلاميذِه. ليست القيامةُ عُمرًا جديدًا بل حالةٌ نورانيّةٌ، أزليةٌ، عاصيةٌ على العقلِ لكنّها بمتناولِ المشاعرِ الإيمانيّة. العقلُ يَــفْـقَـهُ جُزءًا قليلاً من الحقيقةِ الإيمانيّة، أما الإيمانُ فَعقلٌ أخَرُ يَفوقُ العقلَ المحدودَ بالزمانِ والمكان. صحيحٌ أنَّ الإنسانَ هو أسْمى مخلوقاتِ هذا الكون، لكنَّ عقلَه يَبقى عاجزًا عن الإِحاطةِ بسرِّ الخَلق ولو بَلغَ الكواكبَ. والعلماءُ الّذين دَرسوا تَطوّرَ الإنسانِ والحياةِ توصّلوا إلى نتائجَ نسبيّةٍ لا تُخوِّلُهم الحسمَ بعدمِ وجودِ الله. فكلُّ ما أنجزَه العلماءُ هو اكتشافُ ما خَلَقه الله، لكنْ، ليس كلُّ ما يَجتَرحُه اللهُ يَكتشِفُه العلماء. لم يُبشِّر المسيحُ بالمسيحيّة. الرُسلُ بَشَّروا بها. لَم يُـؤسِّس المسيحُ دينًا، الكنيسةُ أسّسته. المسيحُ خلقَ حالةً إنسانيّةً متصالِحةً مع الخيرِ، مَبنيّةً على المحبّةِ. أعطانا خريطةَ طريق. أزالَ الزوائدَ التوراتيّةَ عن حقيقةِ الله، وقَضى على احتكارِ اليهودِ الله. كان اليهودُ يَحتجزون الله ويَمنعون على الآخَرين أنْ يقتربوا منه ويَتواصلوا معه ويؤمنوا به. صادرَه موسى بالخُرافةِ، وأمَّمه العشَّارون والفِريسيّون والصدوقيّون بالمصالِح. فجاء المسيحُ يُعتِقُه (ويُعتِق نفسَه) ويُعيده إلى كلِّ البَشر. وأتَت القيامةُ لاحِقًا لتحرِّرَ المسيحَ مِن اليهودِ ولتَضعَ حدًّا لفكرةِ الشعبِ المُختار وأرضِ الميعاد. لم يأتِ المسيحُ ليصالحَ الإنسانَ مع الله، بل مع نفسِه، إذ ما إِنْ يَتصالحَ الإنسانُ مع نفسِه حتّى يرى اللهَ ويُحبّ الآخَر. وهذا معنى "كلّما التقى اثنان أكونُ الثالثَ بينكما". اللهُ لا يَزعَلُ من الإنسان، وأصلاً لا تَنطبقُ على اللهِ مُفرداتُ البغضِ والحَنَقِ والحِقدِ والعتبِ والاعتكافِ والمقاطعةِ والحَرَد. وباطِلُ القولُ إنَّ اللهَ حكَمَ على الإنسانِ بالموتِ عِقابًا على الخطيئةِ الأصليّة. اللهُ يَحتضِنُ ولا يعاقِب. الشرُّ بدأَ مع "قايين" لا مع "آدم". تفاحةُ حوّاء ليست خطيئةً ولا حوّاء بحدِّ ذاتها. هذه الأُسطورةُ لا تَستحِقّ التجسّدَ والصَلب. الخطيئةُ الأصليّةُ هي حجرُ قايين الذي قَتلَ به أخاه. وعينُ هابيل كانت الظهورَ الروحيَّ الأوّل الذي فَضَحَ الفارقَ بين الخيرِ والشرّ. ورغم ذلك، تَستمرّ الخطيئةُ الأصليّةُ من خلالِ الشرّ لأن هناكَ مَن يَتجاهلُ فعلَ القيامةِ ويُصِرُّ، وهو حيٌّ، على أنْ يبقى بين الأموات. نرى الخطيئةَ الأصليّةَ في جرائم إسرائيل، وتهجيرِ السوريّين، واضطِهادِ الأقليّاتِ في العراقِ، وتفريغِ الشرقِ من مسيحيِّيه، والقِتالِ العبثيِّ في اليَمن، والتمييزِ العُنصريِّ في أفريقيا، وسباقِ التسلّحِ في العالمِ، وبلوغِ عددِ المشرَّدين نحوَ سبعينَ مليونِ إنسان، إلخ. مَن تَسبَّبوا بهذه المآسي لم يَلتحِقوا بقيامةِ المسيح. ظلّوا في زمنِ الموتِ الأبديّ. مَن أَتوا بعد المسيحِ فَصلوا الإنسانَ عن الإنسانِ وكرَّسوه للحربِ، وفَصلوه عنِ الله أيضًا ورَبطوه بالجَنّةِ. المسيحُ أَوصَل الإنسانَ إلى الله ليصبحَ، بالقيامةِ، روحًا بلا دنس. الآخرونَ وَعدوا الإنسانَ بالمَلذّاتِ، ليَبقى، بالمَماتِ، جسدًا بدنسٍ وبدونِ قيامة. من هنا، تتأكّدُ الحاجةُ إلى الحوارِ بين الأديانِ حولَ حقيقةِ اللهِ ودورِ الإنسان، وتبدو المسيحيّةُ مَمرًّا لكلِّ انسانٍ لتَتحقّقَ قيامتُه من بينِ الأموات. إنَّ الموتَ ليس سوى سقوطِ الجُزءِ الماديِّ من كيانِنا، فيما الكيانُ الروحيُّ يُكمِلُ حياتَه العاديّةَ الأزليّةَ بفِعل القيامةِ التي أَنجَزها يسوعُ المسيح.