معركةُ "فَجرِ الليرة"
كصِبْيةٍ يُشعِلونَ النارَ بكوْمةِ حشيشٍ يابسٍ فيَحرُقون الغابةَ بأسْرِها، هكذا يُشعِل البعضُ حربَ الليرةِ فيَحرُقون البلد. حبّذا لو يَرمي رياض سلامة استقالتَه في وجهِ "أَكَلَةِ الليرةِ" لنرى كيف سيَهرعُ الجميعُ إليه راجينَ عودتَه عنها، كما يومَ رَمى فؤاد شهاب استقالتَه سنةَ 1960 في وجهِ أكلةِ الجُبنة. يَتعرّض لبنانُ لمؤامَرة. لا كلمةَ بديلةً منها. ظاهريًّـا تَطالُ المؤامرةُ الليرةَ اللبنانيّة، لكنّها فعليًّا تَستهدِف الكِيانَ اللبنانيّ، إذ ما عادت سوى الليرةِ تُوحِّد اللبنانيّين. اضْرُبوا الليرةَ يَسقُط لبنان. هل نتذكّرُ أواسطَ الثمانيناتِ الماضية؟ في البدءِ ما كانت القضيّةُ مؤامرةً. كانت حملةً تركَّزت على حاكمِ مصرف لبنان رياض سلامة لتغييرِه، لا على الليرةِ اللبنانيّةِ لإسقاطِها. كانت لدى بعضِ المحيطينَ بالعهدِ حساسيّةٌ حيالَ هذا الرجلِ الناجحِ. أَساءَهُم أن يكونَ بينَهم ناجحًا، وهو "الحاكمُ" أيضًا، يا للهول! وهو الاسمُ المطروحُ تِلقائيًّا، منذُ عشرينَ سنةً، لرئاسةِ الجُمهوريّة، يا للهَلَع! هكذا، في الليلةِ الظلماءِ افتُقِد العقلُ. بدأت الحربُ المفتوحةُ على رياض سلامة لِدفعِه إلى الاستقالةِ أو لتبريرِ عدمِ التجديدِ له. أصداءُ الحملةِ بلغَت سَماعَ رئيسِ الجُمهوريّةِ العماد ميشال عون، فأدركَ خلفيّاتِها واستَدركَ مفاعيلَها، ووافَق أخيرًا على التجديدِ للحاكمِ، فاستقرّت الأسواقُ قليلًا وانتعشَت الليرةُ نسبيًّا، وفَشِل الفاشِلون، وأدركوا أن وضعَ حاكمِ مصرِفِ لبنان في هذه الظروفِ هو قرارٌ عربيٌّ ودوليٌّ لا محليّ... بعد انكفاءِ الفصيلِ الرسميِّ، بدأت حربٌ جديدةٌ اشتركَت فيها مجموعاتٌ أخرى: اقتصاديّون يَعتقدون عن حسنِ نيّةٍ أنَّ لديهم سياسةً نقديّةً بديلةً عن السياسةِ المـتّــبَعة. خبراءُ ماليّون وَعدوا أنفسَهم، مُذ ذاقوا صَحنَ "المُغْلي"، بحاكميّةِ مصرفِ لبنان. طامِحون ثانويّون إلى رئاسةِ الجُمهوريّة لا يتعدّى حظُّهم حظَّ دخولِ الجَملِ من ثَقبِ الإبرة. مَصرِفيّون فاتَتهم مكاسبُ الهندساتِ الماليّةِ التي وضَعها، اضْطِرارًا، مَصرفُ لبنان. وأخيرًا، صحافيّو الليرة. بين ليلةٍ وضُحاها صورّوا الرجلَ الأكثرَ مِصداقيّةً في الدولةٍ منذ التسعينات كأنّه أسوأُ رجلٍ عَرِفه لبنانُ منذ العصرِ الحجري. شكّلوا غُرفةَ عمليّاتٍ لمعركةِ "فجرِ الليرة". ابتدعوا مِلفّاتٍ وانتقدوا هندساتٍ، سرّبوا وثائقَ منقوصةً إلى الصحفِ وبثّوا ضِدّه إشاعاتٍ طالَت شظاياها مصالحَ اللبنانيّين. هل ندري أنَّ كلَّ إشاعةٍ عن وضعِ الليرةِ كانت تُكلِّفُ لبنانَ يوميًّا ملايينَ الدولاراتِ في سوقِ القَطْع؟ بعد خِسارةِ معركةِ الحاكميّةِ حاولت هذه المجموعاتُ الجديدةُ الانتقامَ من الليرة، بل من الرئيسِ وعهدِه. هنا، تحوّلت الحملةُ على شخصٍ مؤامرةً على وطن. تداخلَت فيها عناصرُ سياسيّةٌ وحزبيّةٌ وأمنيّةٌ وطائفيّةٌ، وتزامَن الأمرُ مع اشتدادِ الصراعاتِ في المِنطقةِ، ومع ازديادِ التوتّرِ بين أميركا وأوروبا من جِهةٍ وإيران من جِهة أخرى. صارت الليرةُ "الجنوبَ اللبنانيَّ الجديدَ". وكُتِب عليها أن تواجِهَ وحيدةً مِن دونِ وفاقٍ وطنيٍّ ومِن دونِ حكومةٍ ومن دونِ استراتيجيّةٍ وطنيّةٍ جميعَ هذه الأخطارِ زائدةٌ عليها العقوباتُ الأميركيّةُ المتصاعدةُ على حزبِ الله. هكذا تلاقت أحقادُ الداخِل على رجلٍ ومؤسَّسةٍ مع مؤامرةٍ خارجيّةٍ على البلدِ من خِلالِ عُملتِه الوطنيّة. ليست صدفةً أن تَترافقَ أزمةُ الليرةِ اللبنانيّةِ مع أزمتَي الليرةِ التركيّةِ والريالِ الإيرانيّ، كأنَّ الليرةَ صارت عُملةَ "حزبِ الله" لا عُملةَ الدولةِ اللبنانيّة. عِوضَ أنْ يَكُفَّ، هنا، أصحابُ الحملاتِ السابقةِ عن التهشيمِ بالليرة، ضاعَفوا حملتَهم وفَتحوا فروعًا لهم في الخارجِ حيث وجدوا أرضًا خَصبةً لدى بعضِ المؤسَّساتِ الدوليّة التي رَفض لبنانُ ـــ وحسنًا فعَلَ ـــ الأخذَ بمقترحاتِها التكنوقراطيّة. ووَجدوا كذلك صحافيّين ومحلِّلين واقتصاديّين أجانبَ مرتَبطين بإسرائيلَ وبدولٍ وبمجموعاتِ ضغطٍ دوليّةٍ هَـمُّها التضييقُ على لبنانَ وصولًا إلى حزبِ الله والعهد. والفضيحةُ، بل المؤامرةُ، أنَّ غالِبيّةَ المقالاتِ والتقاريرِ الصادرةِ في العالمِ العربيِّ وأوروبا وأميركا بشأنِ الاقتصادِ اللبنانيِّ والليرةِ اللبنانيّةِ هي لبنانيّةُ المصدَر. فالمجموعاتُ اللبنانيّةُ ذاتُها راحَت توزّعُ الأخبارَ المغلوطةَ والأرقامَ الاستنسابيّةَ، وتَقومُ بكتابةِ تحاليلَ وتُوزّعُها على المراسلينَ الأجانب وعلى مواقعِ التواصلِ الاجتماعيّ. وكما أنَّ اللبنانيّين يَعتبرون "كلَّ فرَنْجي برَنْجي" قرأوا واستهْولوا وخافوا. لكنّهم لم يُدركوا أنَّ الجوقةَ ذاتَها التي عَبثَت بالليرةِ سابقًا منَ الداخل تَعبَثُ بها اليومَ من الخارج. هذه حربٌ تَخنُق الشعبَ ولا تَستثني المشاركين فيها. لذا، يَجدُر بحزبِ الله، رحمةً بالشعبِ اللبنانيّ، أنْ يُعيدَ النظرَ في استراتيجيّتِه العسكريّةِ المفتوحةِ، ويُفترض بالحكمِ أيضًا أن يوقِفَ انحيازَه المُضِرَّ إلى محورِ الممانَعة، وأيُّ ممانَعة؟! هذا تكرارٌ لانتحارٍ سابق. صحيحٌ أنَّ الاقتصادَ الوطنيَّ مأزومٌ والليرةَ تواجه قلقَ الناس، لكنَّ لبنان، وإنْ كان دولةً مَدينةً، ليس دولةً مُفْلِسَةً. وإذا سلَّمنا جدلًا بأنَّ النقدَ اللبنانيَّ في خَطر، فهل المصلحةُ الوطنيّةُ تَقضي بتضخيمِ الأمرِ أم بمعالجتِه؟ وصحيحٌ أنَّ بعضَ التدابيرِ التي يَتّخذُها حاكمُ مصرف لبنان استَغلّتها مصارفُ بجشعٍ وشَراهةٍ، لكنّه كان مُضطرًّا إلى اتّخاذِها استثنائيًّا لمواجهةِ ظرفٍ استثنائيّ. فأيُّهما أفضلُ: ارتفاعُ سعرِ الفائدةِ أم هبوطُ سعرِ الليرة؟ وأيُّهما أجْدى: هندساتٌ ماليّةٌ خاصّةٌ تُنقِذُ مصارفَ متعثرةً وتَحفَظُ أموالَ المودِعين، أم النأيُ عن الهندسةِ وسقوطُ القطاعِ المصرَفي؟ فالمؤامرةُ على الليرةِ كالانقلابِ على النظامِ، تُواجَهُ بأحَكامٍ عُرفيّةٍ ماليّة. رغمَ ذلك، لا تزال الليرةُ صامدةً لأنَّ حاكمَ مصرِفِ لبنان حصلَ على دعمِ أركانِ الدولةِ اللبنانيّةِ الثلاثة، كما تَمكّن في الأشهرِ الثلاثةِ الماضيةِ من تأمينِ دعمٍ عربيٍّ وغربيٍّ لسياستِه النقديّةِ، ووعدٍ بتحييدِ الليرةِ اللبنانيّةِ ـــ قدَرَ الإمكان ـــ عن العقوباتِ الأميركيّةِ الجديدةِ المقبلةِ على حزبِ الله وحلفائِه.