حزبُ الله يَستأجِرُ "اتفاقَ القاهرة"
إقدامُ حزبِ الله، من دونِ عِلمِ مجلسِ الإنماءِ والإعمار، على إنشاءِ أنفاقٍ في الجَنوبِ نحو الأراضي الفلسطينيّةِ المحتلّة هو تحدٍّ للحكومةِ اللبنانيّةِ والجيشِ اللبنانيِّ والقوّاتِ الدوليّةِ في الجنوبِ قبلَ أن يكونَ تحدّيًا لإسرائيل وللقراراتِ الدوليّة. لقد فَضحَت هذه العمليّةُ تقصيرَ الدولةِ في بسطِ سلطتِها في الجنوبِ، وكَشفَت أنَّ لبنانَ وحزبَ الله وإسرائيل اكتفَوا من القرارِ 1701 بوقفِ إطلاقِ النارِ المؤقَّت واستَغنَوا عن بنودِه الــــ 37 الأخرى (التمهيديّةِ والتنفيذيّة)، كأنَّ هذه البنودَ الباقيةَ تحتاجُ إلى استئنافِ إطلاقِ نارٍ جديدٍ لكي تُطبَّقَ. كان حريًّا بالدولةِ اللبنانيّةِ أن تَقصِدَ حزبَ الله وتسألَه لماذا يورِّطُ لبنانَ في مشروعِ حربٍ جديدةٍ، مثلما تَوجّهَت إلى الأممِ المتّحدةِ تُقدِّمُ شكوى ـــ لا طائلَ منها ـــ ضِدَّ إسرائيل. وكان حريًّا بها أيضًا أنْ تطلبَ من الجيشِ اللبنانيِّ أنْ يَستكِشفَ نقاطَ انطلاقِ حفريّاتِ الأنفاقِ من أرضِ الجَنوبِ اللبناني، مثلما طَلبَت من القوّاتِ الدوليّة أن تَتأكّدَ من وصولِ الأنفاقِ إلى أرضِ إسرائيل. لكنَّ أركانَ الدولةِ فضّلوا رَمْيَ "الـمُشكِل" خارجَ الحدودِ لئلّا يتحوّلَ صراعًا داخليًّا إضافيًّا مع حزبِ الله. هذه السياسةُ تَصُحُّ مرّةً ولا تَصُحُّ دائمًا. إذا كانت إسرائيلُ تُحضِّرُ لحربٍ على لبنان، لماذا نُعطيها الذريعة؟ وإذا لم تَكن تُحضِّر لها، وهي مُستأنِسةٌ بجيرةِ حزبِ الله في الجنوب، لماذا نَستفِزُّها؟ جرأةُ الصراحةِ أفضلُ من جرأةِ القتال. إنَّ استمرارَ التغاضي عن وضعيّةِ حزب الله في الجَنوبِ خصوصًا، والبلادِ عمومًا، والشرقِ الأوسطِ عامّةً، سيُعرِّضُ لبنانَ، في ساعةٍ لا يُدركُها أحدٌ، لحربٍ أقسى من حربِ تمّوز 2006. وأَكان المنتصِرُ فيها عسكريًّا، إسرائيلَ أم حزبَ الله، المهزومُ هو لبنان نظرًا للدَمارِ الشاملِ الذي سيَلحَق به. يا إخوان، لم تَلِدنا أمَّهاتُنا للقتالِ الدائمِ ولا أنْشأ آباؤنا الكيانَ اللبنانيَّ للحروبِ المتواصلة. لا القتالُ قدرُنا ولا الحروبُ رسالتُنا. إنْ فُرضَت علينا كنّا لها… وكنّا لها. لكنّنا لا نُفتّشُ عنها بالسِّراجِ والأنفاق، ولا نُقيمُ صلاةَ اسْتِسقاءٍ لتَهطِلَ الحروبُ علينا. نحن نُصلّي لنعيشَ ونَتعلّمَ ونَعمَلَ ونُبدِع. نحن نُصلّي لنؤسِّسَ عائلةَ الفرحِ والسعادةِ والطمأنينة. نحن نُصلّي لنَبنيَ مجتمعَ الأخوّةِ والشراكةِ الوطنيّةِ والمساواة. نحن نُصلّي لنَبقى شعبًا حرًّا آمنًا كريمًا سيّدًا ومستقلًّا. نحن نُصلي لنَحيا بين الكُتبِ والأغاني والموسيقى في ظلِّ قيمِ السلام. نحن نُصلّي ليُبعِدَ اللهُ عنّا الحروبَ لا ليُرسِلَها إلينا. ونُصلّي، خصوصًا، كيْلا يأتيَ يومٌ ندعو فيه على الساعةِ التي أسَّسنا فيها هذا البلدَ بألفِ طائفةٍ وطائفة، وألفِ ثقافةٍ وثقافة، وألفِ نَمطِ حياةٍ وحياة، وألفِ هوّيةٍ وهوّية، وألفِ ولاءٍ وولاء. ما لِفئةٍ أنْ تَفرِضَ مشيئتَها على وطنٍ بأكملِه وعلى دولةٍ بمؤسّساتِها، وأنْ تُقرّرَ مصيرَ شعبٍ كأنّه مِلْكُ يَديْها. وما لفئةٍ أنْ تُعطِّلَ النظامَ والدستورَ والرئاسةَ والحكومةَ خِدمةً لمشروعٍ يخالِفُ مصلحةَ لبنان الدنيا والوُسطى والعليا، ومصلحةَ مسيحيّيه ومسلميه، ومصلحةَ كلِّ المناطقِ اللبنانيّة، والجنوبِ اللبنانيِّ حصرًا. قدّرنا زمنَ المقاومةِ وقد سَطَّرت بالدمِّ أمجادًا وبالتحريرِ انتصارًا. أما اليوم، فحزبُ الله أَبعدَنا عن ذاك الزمنِ المحترَم، ويَتعاطى مع الدولةِ والمكوّناتِ اللبنانيّةِ الأخرى من موقِعِ "انتصارِ مِحورِ الممانعةِ والمقاومةِ في الإقليم". لم نَعُد نَسمعُ في خُطَبِ قادتِه ذِكرًا لكلماتِ "تحرير مزارعِ شبعا وتلالِ كفرشوبا وغربيِّ الغَجر". وزَّع الحزبُ بندقيّتَه بعيدًا من الجَنوبِ على جبهاتِ دولِ المِنطقةِ ما أَضعفَ التعاطفَ العربيَّ مع مقاومتِه السابقة. لستُ من أولئكَ الذين يَنتظرون ساعةَ دينونةِ حزبِ الله. أقدِّر ذكاءَ قياداتِه وتضحياتِ شبابِه. وأؤمنُ بضرورةِ الإفادةِ الوطنيّةِ من قُدراتِه. وأدعو إلى استيعابِ حالتِه الشعبيّةِ والعسكريّةِ في إطارٍ دستوريٍّ جديدٍ يَشمُل سائرَ المكوّناتِ اللبنانيّة من وحيِ التنظيمِ العسكريِّ السويسريِّ. هكذا يصبح الشعبُ جيشًا والجيشُ مقاومةً والمقاومةُ شرعيّةً. وهكذا تصيرُ الدولةُ ناظمةَ الحياةِ العامّةِ ومصدرَ القراراتِ المركزيّة. هذا الحلُّ لا يَتطلّبُ استراتيجيّةً دفاعيّةً فقط، بل هَنْدسةً جديدةً للبنان أيضًا لأنَّ خلافَ اللبنانيّين على الوطنِ لا يَقِلُّ عن خِلافِهم على سلاحِ حزبِ الله. هذا الحلُّ يَستلزِمُ أولًا أنْ يَفُكَّ حزبُ الله ارتباطَه العسكريَّ، على الأقل، بمعاركِ المِنطقةِ وصراعاتِها، ويلتزمَ في الجنوبِ القرارَ الدوليَّ 1701. خلافُ ذلك سيَبقى لبنانُ عُرضةً لكلِّ الاحتمالاتِ العسكريّةِ والاقتصاديّة والكيانيّة، وهو أمرٌ حان الوقتُ لنرفُضَه من دونِ خوفٍ وموارَبة. فإذا كان حزبُ الله لا يبالي بتعريضِ مناطقِ وجودِه لاعتداءٍ إسرائيليٍّ، فنحن نَحرِصُ على أمنِنا وحياتنِا وعائلاتِنا ومؤسّساتِنا والبُنى التحتيّة، وعلى مناطقِنا وعاصمتِنا وجَنوبِنا وضاحيتِنا. رفضُ هذا الواقعِ لا يَستدعي المواجهةَ مع حزبِ الله، فهذا أسوأُ تفكير، بل يَتطلّبُ جرأةً لنقولَ له بمحبةٍ واحترامٍ ما يلي: ما دُمتَ لا تُحبّذُ حاليًا وضعَ سلاحِك في كنفِ الجيشِ اللبنانّي، لا تَجعل سلاحَ الجيشِ مُكمِّلًا لسلاحِك. وما دُمتَ لا تَفُكَّ الارتباطَ مع دولِ المِنطقة، فُكَّ الارتباطَ مع دولةِ لبنان إلى حينَ تنتهيَ من جِهادِك العسكريّ. وما دُمتَ تعارِضُ حيادَ لبنان، حيِّدْ لبنانَ عنك فَــتَــقِيه تداعياتِ انحيازِك. إن بقاءَ الجيشِ اللبنانيِّ والقوّاتِ الدوليّةِ في الجَنوب، مِنطقةِ عمليّاتِ حزب الله، من دون أن يُطبِّقا القرارَ 1701، يَجعل لبنانَ بأسْرِه مسؤولًا عن تصرّفاتِ حزبِ الله وأنفاقِه وصواريخِه ومشاريعِه العسكريّة، وسيكون، بالتالي، هدفًا مركزيًّا للاعتداءاتِ الإسرائيليّة. لذا، قد يكون أجدى للدولةِ أنْ تُقيِّمَ مدى فائدةِ وجودِها غيرِ "الضابِطِ الكُلّ" في الجنوبِ. في الحالتين سيادةُ الدولةِ اليومَ صوريّةٌ هناك. لكنَّ الفارقَ أنَّ إعادةَ انتشارِها لا يُبقيها شاهدَ زورٍ، ويَقيها حروبًا لم تَتّخِذ قرارًا بها. إنَّ "اتفاقَ القاهرة" الذي عُقِد سنةَ 1969 مع منظّمةِ "فتح" الفِلسطينيّة في الجنوب لا يزال ساريَ المفعول، لكنَّ المستأجرَ اليومَ طرفٌ لبنانيٌّ، ابنُ البلد.