أَفرَجوا عن التأليفِ وقَبضوا على الحكومة
باستثناءِ حزبِ الله، يَتعذّرُ على الآخرين أن يُزغْرِدوا ويُطلِقوا الأسهمَ الناريّة بمناسبةِ ولادةِ الحكومةِ الثَلاثينيّة. وحدَه سمير جعجع كان رابطَ الجأشِ ومتعاليًا لدى إعلانِ الحكومة، وبأقلِّ ضررٍ ممكن طَوّق، وحيدًا، عمليّةَ عزلِ القوّاتِ اللبنانيّة. ووحدَه وليد جنبلاط رَبطَ الدعمَ بالثوابت. تكوينُ الحكومةِ اللبنانيّة يُكمّلُ المشهَدَ الممتدَّ من العراق وسوريا وصولًا إلى لبنان، حيث ميزانُ القِوى راجِحٌ حاليَّا لمصلحةِ إيران وحلفائِها. منذ التسويةِ الرئاسيّةِ سَلّمَ المسؤولون اللبنانيّون بهذا الواقعِ المتدرِّج وسْطَ لامبالاةٍ عربيّةٍ ودوليّة: العربُ منهَمِكون بمصيرِ أنظمتِهم وخِلافاتِهم، وأميركا تُلقِّمُنا عقوباتٍ، وكأنَّها بالعقوباتِ تُعوّضُ عن تَقلّبِ سياستِها وتُغطّي انسحابَها وتُغيِّر وجهَ الشرق. هكذا القِوى اللبنانيّةُ المراهنةُ على مصيرِ الصراعِ في المِنطقة أَدركت طبيعةَ اللُعبةِ وتصنيفَ لبنانَ فيها، فأُعلِنت الحكومة: حزبُ الله وحلفاؤه توجَّسوا من ارتفاعِ مستوى تهديدِ إسرائيل ونوعيّةِ غاراتِها على سوريا، ومن التجييشِ الأميركيِّ ضِدَّ إيران وتعديلِ موقفِ روسيا منها. أما القِوى التي كانت منضويةً تحت لواءِ 14 آذار فعرَفت حدودَ الدعمِ الأميركيِّ لها بعد قرارِ ترامب الانسحابَ من سوريا وأفغانستان، وبعدَ القِمّةِ العربيّة وزيارة دايفيد هيل. أتَظنُّ أميركا أنّها كانت ستقتلعُ حزبَ الله من جذورِه لو حَجَبت عنه حقيبةَ وزارة الصِحّة؟ ومن يسيطرُ على أكثريّةِ الوزاراتِ السياديّةِ وعلى البلد؟ لذا، "الثلاثُ عشَرات" تقسيمٌ نظريٌّ أَنقذَ ماءَ الوجوهِ الساخطةِ بصمتٍ من أجلِ ولادةِ الحكومة. لكنَّ الحقيقةَ أنَّ الحكومةَ تَضُمُّ أكثريّتين: أكثريّةٌ مصلحيّةٌ تتكوّن من أكثريّاتٍ آنيّةٍ حولَ مَلفّات ماليّةٍ وإنمائيّةٍ وإداريّةٍ واقتصاديّة، وقد تَبلغُ هذه الأكثريّةُ المصلحيّةُ حدَّ الإجماعِ أحيانًا، وتَنخفِضُ إلى حدِّ الثُلثِ وأدنى أحيانًا أخرى. وأكثريّةٌ سياسيّةٌ يتعايشُ فيها ثمانيةَ عشرَ وزيرًا ويَحسِمُ موقفَهم حزبُ الله (وزراءُ حزبِ الله وأمل والتيّارِ الوطنيّ الحرّ والمردةِ واللقاءِ التشاوري) مثلما حَسَمه في تأليفِ الحكومةِ الأولى وقانونِ الانتخاباتِ والموقفِ من سوريا والسلاح، إلخ... مقابلَ أقليّةٍ سياسيّةٍ يَلوذ إليها اثنا عشَر وزيرًا بالحدِّ الأقصى (وزراءُ المستقبل والقوّات اللبنانيّة والتقدميِّ الاشتراكيِّ والرئيس ميقاتي). وإذا كان حزبُ الله رأسَ الحربةِ في الأكثريّةِ السياسيّة، فحزبُ القوّاتِ اللبنانيّة، على الأرجَح، سيكون رأسَ الحربةِ في الأقليّةِ السياسيّة بدعمٍ سخيٍّ من الحزبِ التقدميِّ الاشتراكيّ وبعَوْنٍ مُقنَّن من تَيّار المستقبل. هذا التكوينُ الاضطراريُّ يَحُدُّ من ثباتِ الحكومةِ واستقرارِها، هي التي وُلِدت تحتَ شعارِ تأمينِ الاستقرارِ من أجلِ ثباتِ الوضعِ النقدي. فكلّما احتكمَت الحكومةُ إلى أكثريّةِ الـــــ 18 لتقريرِ القضايا السياسيّةِ والدفاعيّةِ والميثاقيّة تَتعرّضُ للانقسامِ فالتعطيلِ فالسقوط. وكلّما اجتَنبَت القضايا الوطنيّةَ واكتفَت بالأكثريّةِ المصلحيّةِ جَرْجَر عُمرُها. فكما تألّفت الحكومةُ بعد التقاءِ أضواءَ عربيّةٍ وإقليميّةٍ ودوليّة، افتراقُ هذه الأضواءِ يَفرُطُ عِقدَها. ولنا في إسقاطِ حكومةِ الرئيس سعد الحريري سنةَ 2011، وفي محاولاتِ تعطيلِ حكومةِ الرئيس تمام سلام (2014 ــــ 2016) المثالُ الساطع. لكنْ، إلى أيِّ مدى يَحِقُّ لمجلسِ الوزراء، وهو مركزُ القرار، أن يَنأى بنفسِه عن القضايا الوطنيّةِ، لاسيّما في هذه المرحلة؟ أَتُتركُ هذه القراراتُ الكبرى لقوى الأمرِ الواقعِ والطوائفِ والدولِ الأجنبيّة؟ ما مبررُ وجودِ دولة؟ وأين احترامُ "اتفاقِ الطائف"؟. على العموم هذه حكومةٌ عاديّةٌ في مرحلةٍ استثنائيّةٍ. تَعكِسُ بنوعيّةِ وزرائِها صورةَ لبنانيّي ما بعدَ الحروبِ، وتحديدًا صورةَ الطبقةِ السياسيّة. فالديمقراطيّةُ اللبنانيّةُ أصبحت منذ التسعينات حكمَ الطبقةِ السياسيّةِ باسمِ الطبقةِ السياسيّةِ من أجل الطبقةِ السياسيّة. فتِّشْ تجد: في هذه الحكومة جميعُ المستوياتِ الحضاريّةِ والثقافيّةِ والوطنيّة وجميعُ الطبقاتِ الاجتماعيّة. فيها السياسيّون والإخصّائيون. فيها حملةُ الشَهاداتِ المدَقّق فيها وحملةُ الشهاداتِ قيدَ التدقيق. فيها الوزراءُ الواعدون والوزراءُ الموعودون. فيها الآتونَ من لوعةِ الوطن والآتونَ من دلعِ القلب. فيها المؤتَمنون على إرثِ الشهداء والوافدون من إرثِ العائلات. فيها أصحابُ القضيّةِ وأصحابُ القضايا. فيها أسماءُ تَندَم لِـمَ لم يؤتَ بهم قبلُ، وأسماءُ تَعجَب لِـمَ استُقدِموا اليوم. فيها الخبراءُ الّذين نَجحوا في مِهَنِهم والمخبِرون الّذين أَبْـــلوا في مُهمَّتِهم. فيها العينُ الساهرةُ على الأمنِ والعينُ المضيئةُ بالكهرباء. فيها حزب الله وخيرُ الله. لكنَّ هذه الحكومةَ، وتَصِفُ نفسَها بحكومةِ "الوِحدة الوطنيّة"، غَيَّبت تمثيلَ نحو 52% من الشعبِ اللبناني قاطعوا الانتخاباتِ النيابيّةَ الأخيرة. بيد أنَّ هذه "الأكثريةَ الشعبيةَ" قد تَجدُ تطلّعاتِها في حُسنِ أداءِ الحكومة الجديدة وبسلوكِ عددٍ من الوزراءِ الجُددِ نساءً ورجالًا؛ فالموضوعية توجِب الاعترافَ بوجودِ طاقاتٍ جيدّةٍ بين أعضاءِ الحكومة. المهم أن "يُـمكِّنوهم". في المعارضةِ كنا أو في الموالاة، حَريٌّ بنا جميعًا أنْ نَمنحَ الحكومةَ فرصةً، حتى لو كان "المؤمِنُ لا يُلدغُ من الجُحرِ مرتين"، بل مرّات. وحريٌّ بالحكومة أيضًا أن تبادرَ فورًا إلى:
- وضعُ تقاريرَ عن واقعِ حالِ كل وزارةٍ مع جدولٍ زمنيٍّ بالمشاريعِ الاصلاحيّةِ في كلِّ قِطاع.
- الإسراعُ في وضعِ خططٍ تنفيذيّةٍ لقطاعات الكهرباءِ والنفاياتِ والاتصالاتِ والمواصلات.
- تحويلُ المساعداتِ والقروض الآتيةِ من "مؤتمر سيدر" إلى مشاريعَ إنمائيّةٍ وإنتاجيّةٍ توفّرُ عملَ اليدِ العاملةِ اللبنانيّة لا النازحين السوريّين كما تريد الدول المانحة.
- إعطاءُ الأولويّةِ لإعادةِ النازحين السوريّين بكلِّ الوسائلِ القانونيّةِ لأنَّ كلَّ الانجازاتِ تَذهب هَدرًا مع دمجِ نحو مليونٍ و 700 ألفِ نارحٍ سوريٍّ في لبنان.
- استنهاضُ صداقاتِ لبنان العربيّةِ والإقليميّةِ والدوليّة عبر حملةٍ ديبلوماسيّةٍ كبرى.
- قيامُ رئيسَي الجمهوريّةِ والحكومة بجولاتٍ في المناطقِ اللبنانيّةِ والحوارُ مع الناس وعقدُ بعضِ جلساتِ مجلسِ الوزراء في المحافظات. هكذا حكومةُ الطبقةِ السياسيّة تَتحوّلُ حكومةَ الشعبِ اللبناني.