خُطِفَ... وهو في طريقِ العودة

يعودُ إلى الذِكرياتِ عادةً الّذين طوَوا عقودَ العمرِ، فتقاعَدوا على شُرفةٍ تُطِلُّ على وادٍ أو على شاطئٍ تُجاهَ أفْقٍ مَجازيّ. لكنْ في لبنان، وقد سَدَّت الدولةُ أبوابَ المستقبلِ، صارت الذِكرياتُ يوميّاتِ الشبابِ أيضًا. كان كبارُ السِنِّ يَتذكّرون العقودَ السابقةَ والعصور، فصار شبابُ لبنان يَتذكّرون اليومَ السابقَ والأسبوعَ السابق والشهرَ السابق والسَنة. كان اللبنانيّون يَتذكّرون قِنديلَ الزيت فصاروا يَتذكّرون الكهرباء. كانوا يَتذكّرون جَرّةَ الماءِ فصاروا يَتذكّرون ماءَ الحنفيّة. كانوا يَتذكّرون طريقَ التراب فصاروا يتذكّرون الزِفتَ على الطريق. كانوا يتذكّرون الأُدباءَ فصاروا يَتذكّرون الأدَب. كانوا يَتذكّرون الاستقلالَ فصاروا يتذكّرون الانتداب. كانوا يتذكّرون المغتربين فصاروا يتذكّرون المقيمين. وكانوا يتذكّرون الأمواتَ فصاروا يتذكّرون الأحياء. ما هذه الدولةُ التي يَتذكّرُ شبابُها عوضَ أن يَحلُموا؟ وما هذه الدولةُ التي تَنقُل إلى شعبِها عَدوى الشيخوخةِ الـمُبكِرة؟ أُعطينا مئةَ سنةٍ لنَنجحَ في بناءِ دولةٍ ديمقراطيّةِ، وممارسةِ التفاعُلِ بين الأديان، ونشرِ الثقافةِ والعلمِ والرُقيِّ والازدهار. بَنيْنا كلَّ ذلك في سنةٍ واحدةٍ، ثمّ أمْضينا التسعَ والتسعينَ الأُخرى نَهدِمُ ما بَنيْناه. أعطانا التاريخُ موعِدًا فتَخلّفْنا عن الحضورِ، وحَدّدَ المستقبلُ لقاءً فاعْتذَرنا. قَدّمْنا إلى العالمِ أجملَ ما لدينا وأَبْقينا لبلدِنا القبحَ، أعطينا العالمَ السلامَ واحْتفَظنا لأنفسِنا بالسلاح. كنا في جنائنِ الحضارةِ فخَطفونا وزجّونا في كهوفِ التخلّف. أعادونا إلى فُرنِ الخبزِ نَرجو رغيفًا، وإلى قارعةِ الطريق نَتسَوّل قِرشًا، وإلى أبوابِ السفاراتِ نَستعطِفُ رحيلًا. نشعُر أنّنا خارجون من حربٍ عالميّةٍ دمّرت كل َّشيء. نعيشُ نتائجَها ومفاعيلَها فيما الحربُ لم تَقع. اخْترَعنا الدمارَ الشاملَ السلميّ. هذا الانهيارُ المهروِلُ ليس طبيعيًّا. هو مزيجُ مخطَّطٍ مرسومٍ وَجدَ تُربتَه الصالحةَ في فُقدانِ الوطنيّةِ وسوءِ الحوكمةِ وقِلّةِ المسؤوليّةِ والإجرامِ الـمُتعَمَّد. في لبنان تساوى الذَكاءُ بالغَباءِ، وادّعاءُ الوطنيّةِ بكِتمانِ الخيانة، فكان... الانهيار. يوم قال وزيرُ خارجيّةِ فرنسا "إنَّ لبنانَ مُعرّضٌ للزوال"، ضَحِك البعضُ وتَهكّـمَ وتساءل: كيف للـــ 10452 كلم² أن تَختفيَ؟ وماذا عن الجبالِ والوِهادِ والأنهرِ والسهول؟ وماذا عن الأملاكِ البحريّة؟ هل تَنشَقُّ الأرضُ وتَبتلِعُ لبنان؟ نَسِيَ البعضُ أنَّ الأممَ تزولُ والجغرافيا تبقى. ألم تندثِرْ من الوجودِ الممالكُ التي اجتاحت لبنانَ وخَلّدت مرورَها ـــ أو زوالَها ـــ على صخورِ نهر الكلب؟ ألم يُدمَّرْ مرفأُ بيروت فيما لا يزالُ في مكانِه؟ ألم تَزُلْ دولتا الإمارةِ والمتصرفيّةِ فيما الجبلُ لا يزالُ شامخًا يَنتظرُ... في مكانِه؟ ودولةُ لبنان الاستقلال، ألم تتوارَ عن وجهِ الكرامةِ منذ عقودٍ رغمَ بقاءِ يومَ 22 تشرين الثاني في الروزنامة؟ في المئةِ سنةٍ الماضيةِ زالت أكثرُ من سبعِ إمبراطوريّاتٍ وممالكَ بعد الحربَين الأولى والثانية، ونَشأت في أعقابِـها عشراتُ الدولِ الجديدة: زالت إمبراطوريّاتُ النمسا ـــ هنغاريا وروسيا وألمانيا وبريطانيا العظمى، والسلطنةُ العثمانيّةُ، ومملكةُ إيطاليا، والاتحادُ السوفياتي. وسَقطت النازيّةُ والفاشيّةُ والشيوعيّة. واخْتفَت العائلاتُ التاريخيّةُ الحاكمةُ في أوروبا وآسيا. الإمبراطوريّاتُ عادت إلى حدودِها الذاتيّةِ، والأفكارُ الشموليّةُ إلى الكُتب. أن يختفيَ بلدٌ كلبنان من دونِ حربٍ يَعني أن تَسقُطَ مقوِّماتُه وتَنقسِمَ مكوِّناتُه، أن يَنهارَ اقتصادُه وتَتعطّلَ مؤسَّساتُه، وأن يَهويَ نظامُه وتُستباحَ سيادتُه ويُنْكَبَ بحكّامِ الـمِتْعة. استنادًا إلى هذا المفهومِ العِلميّ، لبنانُ في طورِ الاختفاء. لم يَحدُث اختفاءُ لبنانَ فجأة. منذ ستّين سنةً وهو يعاني (1958 ـــ 2020). نُــبِّــهَ وأُخْطِرَ وأُنذِرَ فلَم يأبَه. زمنَ التوراةِ والتلمودِ كانوا يعتقدون أنَّ اللهَ يُرسل أنبياءَ إلى الحكّامِ ليُرشِدوهم نحو الطريقِ المستقيم. جاء النبيُّ يونس إلى نينَوى، والنبيُّ دانيال إلى نُبوخُذْنَصَّر، والنبي أوڤاديا إلى الآدوميّين. اليوم، تُرسِلُ "الآلهةُ" صندوقَ النقدِ الدوليِّ والبنكَ الدوليَّ وبنكَ الاستثمارِ الأوروبيَّ ورؤساءَ الدولِ الصديقةِ ومُوفَديها و... العقوبات. لكنَّ حكّامنَا الّذين يَظّنون أنفسَهم أنبياءَ، رَجموا الجميعَ وفَضّلوا الإمعانَ في الخِياراتِ الخاطئةِ والقاتلةِ والمدمِّرة. أضافَ هؤلاءِ الحكّامُ إلى أزماتِنا الوجوديّةِ مفهومَ الانتحار. في لبنان نعيشُ أزْمةَ ولاءٍ منذ 1920، وأزْمةَ وطنٍ منذ 1975، وأزْمةَ نظامٍ منذ 1989، وأزْمةَ دولةٍ منذ 2000. كان يُمكن لهذه التواريخِ الأساسيّةِ أن تكونَ مصدرَ قوّةٍ لكيانِ لبنان، لكنّنا أسأْنا فهمَها وتوظيفَها. كلُّ طائفةٍ تَحفظّت عن مرحلةٍ من مراحلِ لبنانَ التأسيسيّةِ والدستوريّة. هذا رَفضَ صيغةَ لبنانَ الكبير، وذاك تَدلّعَ على الميثاق الوطنيّ، وذلك عارضَ اتّفاقَ الطائف. أما إخوانُنا الشيعةُ، الّذين كانوا من أكثرِ الطوائفِ استجابةً لفكرةِ لبنان، فمرجِعيّاتُهم الدينيّةُ والحزبيّةُ ترفضُ اليومَ كلَّ هذه المراحل. المفارَقةُ أنّنا أكثرُ شعبٍ أجرى تسوياتٍ في تاريخِه الحديث، لكنَّ ذاتيّـتَنا العميقةَ مبنيّةٌ على نزعةِ الغلبةِ أكثرَ من مبدأِ المشاركةِ والمساواة. أحدُ الأسبابِ أنَّ اللبنانيّين، قبلَ نشوءِ دولةِ لبنانَ الكبير، كانوا مجموعةَ مقاطعاتٍ وقبائلَ وعشائرَ وطوائفَ تتقاتلُ دوريًّا إلى أن ينتهيَ القتالُ بانتصارِ فريقٍ على آخَر وبتدخّلِ طرفٍ خارجي. وعِوضَ أن تتراجعَ هذه الحالةُ، أُضيفَت إليها، مع لبنان الكبير، معاركُ القوميّاتِ والهويّاتِ وأرْهقَتها المشاريعُ المذهبيّة. لقد دَخَلنا إلى بيتِ لبنان بموْروثاتِنا السابقةِ عوضَ أن نَغتسِلَ منها قبلَ أن نَطأَ عتبةَ لبنانِنا الجديد. لذا، لبنانُ الآنَ على خطِّ التماسِ بين البقاءِ والفناء. ورغم أنَّ اليوميّاتِ تُرجِّحُ الفناء، تجاربُ التاريخِ وحتميّةُ المستقبلِ وحُنُوُّ العالم وإرادةُ الصمود تؤكد البقاء... وأفضلَ من ذي قَبل. لبنان لن يَختفيَ لكنّه سيتغيّر. وكلّما اشتدّت الضغوطُ زادَ الأمل. دولٌ أخرى، كالبيرو والأرجنتين واليونان، مرّت في أزَماتٍ شبيهةٍ بأزْمتِنا وخَرجَت منها. وإذا كانت هذه الدولُ الثلاثُ استعادت الحياةَ من دونِ تعديلٍ في دساتيرِها وأنظمتِها، فلأنَّ أزماتِها كانت اقتصاديّةً في الشكلِ والمضمون، بينما أزْمةُ لبنان اقتصاديّةٌ في الشكلِ وسياسيّةٌ في المضمون. بدأ العالمُ عمليّةَ إنقاذِ لبنان، وخياراتُه مفتوحة. لن يَدَعَ العالمُ لبنانَ يموت. وأصلًا، نحن لن ندعَ لبنانَ يموت. مَن يريد أن يَخرجَ من منظومةِ الأممِ فلْيَخُرج وحدَه. نحن هنا ولن نذهبَ إلى جُهنّم ولا إلى الجَنْة. سنناضِلُ مع أصدقائِنا لاستردادِ لبنان من خاطفيه. ستَحصُل عمليّاتُ كرٍّ وفَرٍّ، لكنَّ لبنانَ المخطوفَ سيتحرّر. ليكن إيمانُنا بأنفسِنا قويًّا، فما من باطلٍ إلا سيسَقُط.

Previous
Previous

لا تراهِنوا على حربٍ مُنضَبِطة

Next
Next

دولةٌ لـمـرّةٍ واحــدة!