...إنْ ذَهبَت مجتمعاتُهم ذهَبوا
يستطيعُ حزبُ الله أو أيُّ حزبٍ آخَر أن يطالبَ بتعديلِ دستورِ لبنان. هذا حقٌّ شرعيٌّ لأيِّ مواطنٍ أو جماعة. نحن أيضًا لدينا ملاحظاتٌ على الدستورِ، إذ نُطالب بإدخالِ مبدأِ الحيادِ عليه. لكن ما هو غيرُ مسموحٍ لنا ولحزبِ الله أن نَعملَ على تغييرِ المجتمعِ اللبنانيّ. قبلَ أن يكونَ لبنانُ دولةً وكِيانًا كان مجتمعًا؛ وهذا ما ساعَدَنا على الصمودِ قبلَ نشوءِ دولةِ لبنانَ الكبير وبعدَ نشوئِها. هو المجتمعُ، لا الدولةُ، ما أتاح للبنانيّي الجبلِ مواجهةَ الاحتلالَين الـمَمْلوكيّ والعُثماني. وهو المجتمعُ، لا الدولةُ، ما مَكَّنَ لبنانيّي السيادةِ والاستقلالِ والتحريرِ من مواجهةِ الاحتلالَين السوريّ والإسرائيليّ. وهو المجتمعُ، لا الدولةُ، الذي حافظَ سنةَ 1975 ـــ وما بعدَها ـــ على لبنان رغمَ انقسامِ مؤسّساتِ الدولةِ الدستوريّةِ والأمنيّةِ والعسكريّة. وكان مجتمعُنا الوطنيُّ يَملِكُ قضيّةً مُثلَّثةَ الأضلع: أمنٌ، حريّةٌ، وحضارة. طوالَ ثلاثينَ سنةً أمضاها في مرابعِ لبنان، غَيّرَ الاحتلالُ السوريُّ الطبقةَ السياسيّةَ الاستقلاليّةَ، وفرَضَ مجموعةً تابعةً له وتركَها خلْفَه وديعةً تُرَفْرِف. لكنّه لم يبالِ كثيرًا بتغييرِ المجتمعِ اللبنانيّ، لا بل فُتِنَ السوريّون، ضبّاطًا وسُيّاحًا، في حياةِ بعضِ اللبنانيّين وزاغوا وتَغلْغلوا في الليالي واقتَبسوا جوانبَ سطحيّةً نَقلوها إلى الشام. إلّا أنَّ ما خالَطَه السوريّون آنذاك ما كان المجتمعَ اللبنانيَّ الصامِد، بل مجتمعَ أوراقِ تسهيلِ المرور... اليوم، قد لا يكون قَصْدُ حزبِ الله تغييرَ المجتمعِ اللبنانيّ تحديدًا، لكنَّ مشروعَه نقيضُ المجتمعِ اللبنانيِّ بوجْهِه المسيحيِّ والدُرزيِّ والمسلِم، بـمَن فيه الشيعيُّ قبلَ أن تَخرُقَه الحالةُ الخمينيّةُ. مشروعُ حزبِ الله أبَعدَ شيعةَ بيئتِه عن سائرِ اللبنانيّين بينما تاريخُ الشيعةِ جَعلهم الأقربَ إلى قلوبِنا وإلى لبنان. استكمالُ مشروعِ حزبِ الله من شأنِه أنْ يُغيّرَ نمطَ حياةِ الشعبِ اللبنانيّ وقواعدَ تفكيرِه، وثوابتَه التاريخيّةَ، وتقاليدَه وعلاقاتِه وهوّيتَه ونفسيّتَه ومفهومَ الوجود. فحزبُ الله ليس حزبًا وسلاحًا فقط، إنه مجتمعٌ مميّزٌ قائمٌ بذاتِه بموازاةِ المجتمعِ اللبناني. لقد نَجحَ حزبُ الله في خلقِ مجتمعٍ ذي ثقافةٍ شموليّةٍ خاصّة. فإذا كانت بين لبنانَ والعروبةِ مسافةٌ، وبين العربِ والفُرسِ مسافةٌ، وبين الفارسيّةِ والخمينيّةِ مسافة، فأنّى لنا، في هذه الحال، أن نلتقي في مجتمعٍ واحِد؟ ولأنَّ مجتمعَي لبنانَ التاريخيِّ وحزبِ الله المستَحْدَث لا يَلتقيان في النظرةِ إلى قيمِ الإنسانِ والحياةِ والكون، وإلى مفهومِ السلامِ والحربِ والاستقرار، الخَشيةُ أن يؤدّيَ هذا الافتراقُ المجتمعيُّ/الفلسفيُّ إلى استحالةِ العيشِ في دولةٍ مركزيّةٍ واحدةٍ. ربّما أسهلُ أن تَجدَ الدولةُ المركزيّةُ حلًّا لسلاحِ حزب الله من خلالِ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ إذا أرْفَقتْها بحلٍّ للافتراقِ المجتمعيِّ من خلالِ "دستورٍ اتّحاديّ". الاختلافُ حولَ ثقافةِ الحربِ والسلمِ مع حزبِ الله أخطرُ من الاختلافِ معه على قرارِ الحرب والسلم. وإذا كانت نزعةُ "الدستورِ الاتّحاديّ" تنمو أكثرَ فأكثرَ في أوساطٍ متعدّدةِ الطوائف، فالأفضلُ أن نَبقى موحَّدين في دولةٍ تَفصِلُ بينَنا من دون أن تُباعدَ بينَنا. يَعني "لا للتقسيم". مع تحوّلاتِ التكوينِ اللبنانيِّ، نتيجةَ تراجعِ البُنى الفكريّةِ والدينيّةِ والكيانيّةِ في الشرقِ الأوسط وانتقالِ عَدْواها إلى لبنان، أصبحت الأولويّةُ لإنقاذِ المجتمعِ على إنقاذِ الدولة. سنةَ 1975 سَقطَت الدولةُ وبقي المجتمعُ فصَمدْنا وانتصَرنا معًا وأعَدْنا بناءَ الدولة. مجتمعُنا هو "الصندوقُ الأسود" الذي سَجّل رِحلتَنا عبرَ التاريخِ إلى المستقبل. لو سَقط المجتمعُ آنذاك، مثلما نحن اليومَ مُهدَّدون، لكان سَقط لبنان. ما يميّزُ لبنانَ عن دولِ محيطِه أنَّه دولةٌ تَدور حولَ المجتمعِ، بينما المحيطُ دولٌ تَدور حولَ أنظمتِها. لم تكن التعدديّةُ يومًا عائقًا أمامَ وِحدةِ المجتمعِ اللبنانيّ لأنها كانت تَعدُّديّةً لبنانيّةَ الهويّة. كان الناسُ يحبّ بعضُهم بعضًا ويَتشابهون في فروقاتِهم. وكانت الفوارقُ بين المكوِّنات تِلقائيّةً لا مُتعمَّدة، وتراثيّةً لا عقائديّة، ووطنيّةً لا مستوْرَدة، وفِعلًا ذاتيًّا لا فِعلًا سياسيًّا. لكنَّ تلك التعدديّة كانت عائقًا أمامَ وِحدةِ الدولة بسببِ الطبقةِ السياسيّةِ التي قَسَّمَت المجتمعَ والشعب. في كل مرّةٍ كانت الدولةُ تَنقسمُ سياسيًّا كان المجتمعُ اللبنانيُّ يعيدُ توحيدَها وطنيًّا لأنّه كان لا يزال متكامِلًا. تقسيمُ الدولةِ لا يُقسِّمُ المجتمعَ المتكامِل. وأبرزُ مثالٍ على ذلك أنَّ تقسيمَ ألمانيا دولتَين سنةَ 1945 لم يُقسِّم المجتمعَ الألمانيَّ الذي عاد وتَوحَّدَ في لحظةٍ إثرَ سقوطِ حائطِ برلين سنةَ 1989. مع الخروقاتِ الحضاريّةِ والثقافيّةِ المتطرِّفةِ التي فَجَّرت وِحدتَنا المجتمعيّةَ، صار المجتمعُ اللبنانيُّ عاجزًا ويُشبِه مجتمعاتِ دولِ البلقان أكثرَ مـمّا يُشبِهُ المجتمعَ الألماني. فخلافَ الشعب الألماني، اختارت شعوبُ البلقان في يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا ومقدونيا بعد سقوطِ الاتّحاد السوفياتِّي سنتَي 1990/1991 التقسيمَ عوضَ المحافظةِ على وِحدتِها. ونحن اللبنانيّين، ضَعُفت وِحدتُنا المجتمعيّةُ عوضَ أنْ تقوى بعدَ خروجِ منظمّةِ التحريرِ الفِلسطينيّةِ، وانسحابِ القوّاتِ الإسرائيليّةِ، وخروجِ الجيشِ السوريّ، وأمسَينا مجتمعَين على الأقل. مَرّدُ ذلك أنَّ أفعالَ التحرير كانت أفعالًا فئويّةً، وحَصَلت من دون تنسيقٍ وطنيّ: المسيحيّون أخْرجوا الفلسطينيَّ والسوريَّ جُزئيًّا. الشيعةُ أخرجوا الإسرائيليّ. والمسيحيُّ والسُنيُّ والدُرزيُّ أخْرجوا السوريّ. وعوضَ أن تتكاملَ "المقاومات" اللبنانيّة، راحت فئاتٌ لبنانيّةٌ تَعتبر نجاحَ فئاتٍ لبنانيّةٍ أخرى في إخراجِ جيش غريب خسارةً لها. فاتّخذَ التحريرُ طابَعًا طائفيًّا ومذهبيًّا ولم يَضَع البعضُ هذه الإنجازاتُ في مشروعِ المجتمعِ الواحدِ والدولةِ الواحدة. وتجلّى ذلك بموقِفِ حزبِ الله الذي وَظَّفَ مقاومتَه في مشروعٍ متكامِل خاصٍّ به، وفي مجتمعٍ خُميّنيِّ التقاليدِ خلافَ المجتمعِ الشيعيِّ اللبنانيِّ التقليديِّ. تجاهَ هذا الـمُعطى السياسيِّ والمجتمعيِّ الجديد، تَستحيلُ إعادةُ بناءِ الدولةِ الحاليّة، ويَستحيلُ حكمُ البلاد، ويَستحيلُ انتظامُ عملِ المؤسّساتِ واحترامُ الاستحقاقاتِ الدستوريّة. وبانتظارِ العودةِ إلى الدولةِ الممكنةِ، يَستحيل أيضًا تركُ الناسِ تَجوعُ وتَفتقِرُ وتَتسوّلُ وتُهاجر. واجبُ المجتمعِ اللبنانيِّ الأصيلِ أن يُحافظَ على هُوّيتِه، ويُنقذَ شعبَه من خلالِ خَلقِ دورةٍ اقتصاديّةٍ وماليّةٍ ومعيشيّةٍ مناطقيّةٍ تَسمَحُ للشعبِ أن يعيش. الشعبُ يَتطلّعُ إلى المؤسّساتِ الشرعيّةِ والمحليّةِ في المناطق، إلى الأحزابِ والبلديّات، إلى الصناعيّين والتجار، إلى المرافئِ والمطارات المجمَّدَة، إلى النقاباتِ والجمعيّات، إلى التعاونيّات والنقابات، إلى المصارفِ والشركاتِ الماليّة. الشعبُ يَتطلّعُ إليها لتتحرّكَ في إطارٍ لامركزيٍّ منظّمٍ من دونِ خوفٍ واستئذان. المجتمعُ أوّلًا، والباقي يأتي...