الفارقُ بين تغييرِ نظامٍ وانبثاقِ سلطة

النظامُ اللبنانيُّ الأساسيُّ لا يحتاجُ ثورةً ليتَطوّرَ، فهو نظامٌ قابلُ التطويرِ الدوريِّ والتكيّفِ مع المتغيّرات. لكنَّ أكثريّةَ الطبقةِ السياسيّةِ التي تَتحكّـمُ به منذُ سنواتٍ هي مَن يحتاجُ ثورةً لتُقتَلع. حضارةُ نظامِنا السياسيِّ هي حضارةُ تراثِنا الروحيِّ والمدنيّ وامتدادٌ لحضاراتِنا التاريخيّةِ القديمة، وهي حضارةُ صيغتِنا الميثاقيّةِ الباحثةِ عن شكلٍ دستوريٍّ يَنسجِمُ مع تحوّلاتِ تَعدُّديَّتِها. التفاعُلُ الطائفيُّ ليس شرًّا مُطلقًا، ولا التفاعلُ العَلمانيُّ خيرًا مطلقًا. يجب أن تكونَ لنا جرأةُ مواجهةِ الأفكارِ والاختيارِ منها ما يُناسِبُ مجتمعَنا اللبنانيّ، فليس كلُّ تطوّرٍ تَقدّمًا، وليس كلُّ تغييرٍ إصلاحًا، وليس كلُّ مُستورَدٍ أفضلَ من أصالةِ التراث. إنّ بعضَ البِدعِ تَحتلُّ النفوسَ كما تَحتّلُ الجيوشُ الأراضي. إذا كانت الطائفيّةُ بتطبيقِها السيّئِ أساءت إلى اللبنانيّين، فالعَلمانيّةُ بتطبيقِها الإلحاديِّ أساءت إلى الإنسانِ إذ أقامَت منظومةَ قيمٍ مُضادّةٍ للدينِ وللطبيعةِ البشريّةِ وشَرَّعَتها. وحين تَلتقي العلمانيّةُ مع الديمقراطيّةِ تَضيع الضوابطُ ما لم يكن قادةُ الأممِ شُجعانًا في قولِ الحقِّ للشعب. فالاستحقاقاتُ الانتخابيّةُ في الدولِ الديمقراطيّةِ غالبًا ما تجعلُ السياسيّين يُماشون مجموعاتِ الضغطِ الناشطةَ ـــ والفاجِرةَ أحيانًا ـــ وهي لا تُمثِّلُ بالضرورةِ الرأيَ العامَّ الحقيقيّ ووِجدانَ الأمّة. دعواتُ فئاتٍ من الثائرين إلى إسقاطِ النظامِ اللبنانيِّ، وإلغاءِ الطائفيّةِ السياسيّةِ والطائفية ـــ وهما أمران مختلِفان ـــ سَبقَتها إليها جميعُ أجيالِ لبنان منذ الاستقلالِ إلى اليوم ولم تَتوفَّق. ما تَغيّر هي الصلاحيّاتُ بين الطوائف بينما حقوقُ المواطنين بَقيت مهضومةً. فهل يَنجحُ جيلُ الثورةِ الحاليّةِ حيث فَشِلت الأجيالُ الأخرى فيَنقُلُ التغييرَ السلبيَّ بين الطوائفِ إلى تغييرٍ إيجابيٍّ يطالُ المجتمع؟ أيَّ نظامٍ نريد أن نُغيّرَ؟ وأيَّ نظامٍ بديلٍ نقدِّمُ؟ تغييرُ النظامِ في لبنان غيرُ ما يَعنيه في اليمنِ وسوريا والعراقِ وليبيا والسودان. لبنان يَمتلِكُ جميعَ البُنى التحتيّةِ الدستوريّةِ والقانونيّةِ والروحيّةِ والمدنيّةِ وآليّاتِ التغييرِ الذاتيّ. يعوزُ لبنانَ حوكمةٌ رشيدةٌ أكثرَ من نظامٍ جديدٍ. الثورةُ في فرنسا كانت تريدُ الانتقالَ من الملَكيّةِ إلى الجمُهوريّة، وفي الاتّحادِ السوفياتيِّ من الشيوعيّةِ إلى الليبراليّةِ، وفي أوروبا الشرقيّةِ من الديكتاتوريّةِ إلى الديمقراطيّة، وفي ألمانيا من التقسيمِ إلى الوِحدة. أمّا ثورتُنا الرائعةُ في لبنان فتريد الانتقالَ من الفسادِ إلى النزاهة. وهذا التحوّلُ لا يَستدعي تغييرَ النظامِ، بل تغييرَ الأَداءِ وانبثاقَ سلطةٍ جديدة. ما خلا موضوعَ الفسادِ، يسودُ التباسٌ وانقسامٌ في الشارعِ حولَ المطالبِ الدستوريّةِ والسياسيّةِ والوطنيّةِ. أتُدركُ الجماهيرُ الفارِقَ بين إلغاءِ الطائفيّةِ السياسيّةِ وإلغاءِ الطائفية؟ وبين دستورِ الاستقلالِ ودستورِ الطائف؟ أتُدركُ الجماهيرُ ماهيّةَ خصوصيّةِ الميثاقِ الوطنيِّ ومميّزاتِ تاريخِ لبنان؟ إنَّ الأفكارَ المثاليّةَ تَصنع ثورةً، لكن الأفكارَ الواقعيّةَ المُطعَّمةَ بنبضِ الثوّارِ تصنعُ دولة. وإذِ اختلَط على الثورةِ التمييزُ بين لبنانَ الجميل ولبنانَ القبيح، فلأنه لم يُعطَ للأجيالِ الثائرةِ أن تَتعرَّفَ إلّا على لبنانَ المحتلِّ، ولبنانَ المنهوب، ولبنانَ الضعيف، ولبنانَ المذهبيّ، ولبنانَ المتُخلِّف، ولبنانَ المديون. لم يُعطَ لهذه الأجيالِ الطيّبةِ أن تَتعرَّفَ إلّا على طبقةٍ سياسيّةٍ دَمّرت لبنانَ ومستقبلَ أجياله، وحَجَبت عنها لبنانَ التجربةِ والنَموذجِ والديمقراطيّةِ والحضارة. كانت أجيالنُا مُحتجَزةً، وها هي تَتحرَّر. وكان لبنانُ معتَقلًا، وها هو يَسعى جاهدًا لإخلاءِ سبيله. إذا أرادت هذه الثورةُ أن تنتصرَ يجب أن تَبتهجَ بقضيّتِها لا بنفْسِها. أن تَنجحَ بتقدُّمِها لا باستمراريّتِها. أن تبقى ثورةً خاطفةً لا مُستنزَفة ولا مستنزِفة. أن تُبلوِرَ فكرَها الوطنيَّ والاقتصاديَّ وتُحدِّدَ سُلّمَ قـيَـمِها. أن توحِّدَ أهدافَها وسقفَ مطالبِها. أن تَعيَ أنَّ سِلميّـتَها تَـحُدُّ من مدى طموحاتِها. أن تَخرُجَ من الكُليّةِ والشموليّةِ والرفضيّةِ المطلَقةِ كأنّها ثورةٌ بولشيفيّة. أن تَطرُدَ منها الثوّارَ المزوَّرين والعناصرَ المندَسّة. أن تُحوّلَ شعاراتِها طروحاتٍ. وأنْ تُقيمَ معادلةً بين طروحاتِها وإمكاناتِها، وتوازنًا بين زَخمِ شارعِها ومناعةِ النظام. كلُّ الشعاراتِ جميلةٌ في الشارع، فنحن اليومَ متأثّرون بجماليّةِ الثورة. لكن الجماليّةَ لا تعودُ مِعيارَ نجاحِ الثورةِ مع مرورِ الوقت. صحيحٌ أنّه لا يجوزُ أن تَنتهيَ الثورةُ قبلَ تغييرِ السلطة، لكنَّ الخَشيةَ أن يُمسِيَ تَعلّقُ الثوّارِ بالشارعِ مثلَ تَعلّقِ المسؤولين بالمناصب؛ فغِوى الشارعِ لا يَقِلُّ عن غِوى السلطة. إنَّ اللبنانيّين يَبحثون عن ثورةٍ ضاغِطةٍ على السلطةِ لا عن سلطِةِ ثورةٍ مضادّةٍ للشرعيّة. حِرصُنا على الثورةِ هو الضمانةُ لكي تُــغـيّـــرَ أجيالُنا لبنانَ الحالي ليبقى لبنانُ الحقيقي، فوِحدةُ اللبنانيّين التي كان يُفترضُ بالدولةِ أن تُحقّقَها، تُطلِقها الثورةُ رمزيًّا في العاصمةِ والمناطق. والتعديلاتُ الدستوريّةُ التي كان يفترضُ بالدولةِ أن تُجريها، تنادي بها الثورةُ متفرِّقةً في الشوارعِ والساحات. وأهمُّ تعديلٍ دستوريٍّ هو العودةُ إلى الدستور. اشْتاق اللبنانيّون إلى الممارسةِ الدستوريّةِ النظاميّة. ومن الدستورِ نَنطلق إلى إقرارِ ما يلي: تطبيقُ اللامركزيّةِ الموسَّعةِ، فصلُ الدينِ عن الدولةِ، وقفُ التجنيسِ، وضعُ قانونٍ مُوحَّدٍ للأحوالِ الشخصيّةِ يُنظِّمُ العَلاقةَ المجتمعيّةَ بين المواطنِ والدولةِ موازٍ لعَلاقةِ المؤمِنِ بطائفته، اعتمادُ مبدإِ الحِيادِ الناشط، وإنجازُ قانونِ انتخابٍ من وحيِ اللامركزيّة. لكنَّ الخَشيةَ أن تَستَغلَّ أطرافٌ هذه الإصلاحاتِ لا لتعديلِ الدستور، بل لتغييرِ لبنان. الّذين يواجهونِ الثورةَ أقوياءٌ وواثقون من تحالفاتِهم أكثرَ من وثوقِ الثورةِ في مؤيّديها، ومُوحَّدون أكثرَ من وِحدةِ مكوّناتِ الثورة، وهم قادرون على إفشالِ التغييرِ اكثرَ من قدرةِ الثورةِ على إحداثه. هؤلاءِ الأطرافُ يحاولون أن يُديروا سلاحَ الثورةِ نحو صدورِ الثوّار بتأخيرِ التغييرِ الحكوميِّ، بضربِ الإصلاحِ الدستوريِّ، وبتعطيلِ الإنعاشِ الاقتصاديّ. استمرارُ الثورةِ في الساحاتِ مقابلَ استمرارِ المسؤولين في الحكم استنزافٌ للثورةِ، فنَدخلُ في الحالةِ الإيرانيّةِ الماليّةِ والاقتصاديّةِ والمعيشيّة (فُقرٌ، عَوَزٌ، بَطالةٌ، تضخّمٌ، نموٌّ سلبيٌّ، اقتصادٌ مُقنَّن، مصارفُ مُتعَبة...)، فيما نحن نَسعى للخروجِ من النفوذِ الإيرانيِّ السياسيِّ والعسكريّ. من هنا واجبُ المجتمعِ الدوليِّ أن يُبيّنَ مدى صِدقيّتِه في دعمِ لبنان عبرَ قراراتٍ على مستوى التَحدّيات التي تواجِهُه.

Previous
Previous

الاتّكالُ على أميركا رهانٌ مُقلِق

Next
Next

لبنان بين داريوس والإسكندر