إنجازاتُ الثورةِ في الشخصيّةِ اللبنانيّة

أن نؤيِّدَ الثورةَ لا يعني أن نَتبنّى جميعَ الثوّارِ وقد تَبعثَروا، ومصيرَ الثورةِ وقد تَـعـثَّر، بل أن نَفرحَ بتحوُّلٍ اجتماعيٍّ تاريخيٍّ ولو انقَسَمنا حولَ عفويّتِه أو تَبعيّتِه. الأسماكُ لا تَعرِف أنّها تعيشُ في البحر، والبحرُ لا يعَرفُ أنّه مَقـرُّ الأسماك، لكنَّ البَحّارَ يَعرِفُ البحرَ والأسماك. الرياحُ لا تَدري أنّها تُحرِّكُ الأمواج، والأمواجُ لا تَدري أنَّ الرياحَ تُحرِّكُها، لكنَّ الفَلكيَّ يَدري ذلك. حين تَثورُ الشعوبُ لا تَسألوا عَـمَّنْ يَدعمُها؟ ادْعَموها. ولا تَسألوا عَـمَّن وراءَها؟ كونوا وراءَها. دَورُ الثوّارِ أن يَثوروا ودَورُ الشعبِ أن يَعشَقَهم، فكيف والشعبُ هو الثوّار، والثوّارُ هم الشعب؟ لا تَبحثوا عن معنى الثورةِ، اكْـتَـفُوا بقوّتِها. لا تَبحثوا عن شرعيّتِها، اكْـتَـفُوا بمشروعيّتِها. لا تَبحثوا عن مصدرِها، اكـتَـفُوا بمستقبلِها. لا تخافوا فَوضاها الآنيّةَ، فالفوضى جِسرُ العبورِ إلى الانتظام. الثورةُ لا تَطرحُ أسئلةً ولا تُعطي أجوبةً، الثورةُ تَطرحُ قضيّةً وتعطي روحًا. لا تُـحدّدوها في قوالبَ كالحَراكِ والاحتجاجِ والانتفاضة. الثورةُ فائضُ غَضَب. اكتشَف شعبُ الثورةِ أنَّ طبقةً حاكمةً منذ ثلاثين سنةً تَمضي في إجلائِه عن أرضِه لتستوليَ وحدَها على الميراثِ وتُبدِّدَ التُراث، فاسْتَـبَـقها قُبيلَ ساعةِ الصِفر، وقام بــ"انقلابٍ مُضادّ" من دونِ "بَلاغ رقم واحد". حَسَم الأمرَ وانتقل إلى "إدارةٍ ذاتيّةٍ" لمصيرِه. الشعبُ اللبنانيُّ، الخائفُ على مصيرِه، ذَهبَ إلى ما هو أبعدُ من وطن: إلى الوجودِ الثابتِ. صحيح أنَّ لدينا كيانًا ووطنًا ودولةً، لكن لم يَعُد لدينا، منذُ نِصفِ قرنٍ، وجودٌ مضمونٌ. لذلك، هذه الثورةُ هي أكثرُ من فعلِ إيمانٍ بوطنٍ: هي فعلُ تثبيتِ وجودِ شعب. أَيَعي الثوّارُ هذا البُعد؟ نجحت الثورةُ منذ يومِها الأوّل في تحقيقِ تحوُّلَين ذاتيَّين يَفوقان كلَّ انتصاراتٍ لاحقة. الأوّل: أَعادَت إلينا الحياة. كان الشعبُ اللبنانيُّ ضالًا فوُجِدَ وميتًا فعاش. أحْيت نَبضَه وقوَّت عَضَلَ قلبِه فسَرى الدمُ في عروقِه مجدَّدًا. كان الشعبُ في حالةِ قَرفٍ بلغت شفيرَ اليأسِ من مصيرِ لبنان. كان شعارُه: "عبثًا... لا نَستطيعُ عملَ شيءٍ"، فحرَّرَته الثورةُ من إحباطِه وانهزاميّتِه ولامبالاتِه، من الموتِ البطيء، وصار شعارُه اليوم: "قادرون على عملِ كلِّ شيءٍ". كَسَرت الثورةُ عادةَ الشعبِ الانصياعَ للأمرِ الواقع والتسليمَ به. وحبّذا لو يُترجَمُ هذا التحوّلُ النفسانيُّ في صناديقِ الاقتراع. هذا الإنجازُ هو لنا جميعًا مهما كانت مواقعُنا السياسيّةُ وانتماءاتُنا الطائفيّة. وهو إنجازٌ للدولةِ قبل أن يكونَ للثورة، إذ ما نفعُ دولةٍ تَحكمُ مجتمعًا خامِلًا وشعبًا منهارًا؟ التحوّلُ الثاني الذي أَحدَثَته الثورةُ في الشخصيّةِ اللبنانيّةِ هو: قُدرةُ جيلٍ لبنانيٍّ جديدٍ على خلقِ موادَّ نضاليّةٍ اجتماعيّةٍ جامعةٍ، فيما القضايا الوطنيّةُ كانت تُحرّكُ فقط مشاعرَ الشعبِ اللبنانيّ وتُقسِّمُه طَوالَ المئةِ سنةٍ المنصَرِمة وتَدفعُه حتّى الاستشهاد. هذا التحوّلُ سيَطبعُ حتمًا الممارسةَ الديمقراطيّةَ في لبنان بعد انتظامِ الحياةِ العامّةِ، فيَخضَعُ التغييرُ والإصلاحُ للمفهومِ السلميِّ بعدما كان يَخضعُ لمفهومِ العنف. بتعبيرٍ آخَر: يَنتقلُ لبنانُ من النظامِ الديمقراطيِّ إلى الممارسةِ الديمقراطيّة. لقد نجح جيلٌ، متعدّدُ الانتماءاتِ والهويّاتِ والثقافاتِ والفئات، في الاندماجِ الوِجدانيِّ وتوحيدِ أولويّات الحياةِ اليوميّة. تَعرّفَ اللبنانيّون أخيرًا على بعضِهم البعض ونَسجوا وِحدةَ مصيرٍ مجتمعيّة ووجوديّة. تَحاور الناسُ. وحوارُ الناسِ مختلِفٌ عن حوارِ الساسة. الأوّلُ حوارٌ، بينما الآخرُ حوارُ طرشان. وخِلافًا لما نَظنُّ، إنّ الطلّابَ في الشارعِ لا يُفوِّتون عليهم دروسًا، إنهم يُعطون دروسًا. ودروسُ الثورةِ إجازةٌ عليا في الوطنيّةِ. كان الحوارُ مقطوعًا: في الدولةِ تَغلُب المناوراتُ، في البيتِ يُهيمنُ التلفزيون، في المدرسةِ تُسيطر الدروس، في الجامعاتِ يغيبُ النقاشُ الطُلّابيّ، وفي المقاهي تَصخَبُ الموسيقى، وفي كل مكانٍ يأسِرُنا التواصلُ الاجتماعيُّ. مع افتقادِ مربّعات الحوار، الشارعُ صار مساحةَ الحوار. صار هو البيتَ والمدرسةَ والجامعةَ والأحزابَ ومجلِسَ النوّابِ ومجلسَ الوزراء. لم يَعد الشارعُ عنوانَ الباحثين عن مأوى، بل الباحثين عن مستقبل. ها هو شعبُ لبنان ـــ العظيمُ حقًّا ـــ يَتحدّى ويواجِه ويقاوم من أجلِ مجتمعٍ أكثرَ منه من أجل وطن. خريطتُه رسالةٌ نصيّةٌ على هاتفِه تُحدِّدُ له إحداثيّاتِ الهدف، وسلاحُه هاتفُ جَيبٍ مكانَ "الكْلاشين". وأصلًا، ما سَقط لبنانُ الوطن إلا مع انحطاطِ المجتمعِ اللبنانيِّ منذ بدايةِ تسعيناتِ القرنِ الماضي، بينما تمكّنَ الوطنُ اللبنانيُّ من الصمودِ في سبعيناتِه وأوائلِ ثمانيناتِه لأنَّ المجتمعَ اللبنانيَّ كان حيًّا ونَهضويًّا. هذا التغييرُ النفسانيُّ الثنائي في بنيةِ الشخصيّةِ اللبنانيّة يَفوقُ التغييرَ السياسيَّ، لأنَّ كلَّ تغييرٍ سياسيٍّ يسقُطُ لاحقًا دونَ هذه البنية. فالأوطانُ والأممُ تُبنى على مجتمعاتٍ وليس العكس. ألم يشَهَد لبنان عبرَ تاريخِه الحديثِ تَغييراتٍ سياسيّةً ودستوريّةً عدّةً، وقُصِفت في رَيعانِ شبابِها لأنها افتقَدت مناعةَ التغييرِ النفسانيِّ والاجتماعيّ؟ يبقى أن يَتجذّرَ هذا التغييرُ في شخصيّةِ الجيلِ الجديدِ، وأن يَمتدَّ إلى مختلَفِ الفئاتِ العُمرّيةِ والبيئاتِ المناطقيّة، وأن يَتحوّلَ حالةً مجتمعيّةً وطنيّة. فاستمراريّةُ هذا التحوّلِ النفسانيِّ تَكمُن في التحامِها بالموقفِ الوطنيِّ، إذ لا تستطيعُ ألـــ"لاسياسةُ" بناءَ دولةٍ هي بتحديدِها تجسيدُ عِلمِ السياسة. نحن اللبنانيّين، صَرَفنا مئةَ سنةٍ في استخراجِ نقاطِ الخلافِ على قوميّاتِنا وأَهْملنا نقاطَ التقائِنا على الحياةِ المشترَكة. ظنّنا أنَّنا، ما لم نكن جميعًا فينيقيّين أو كنعانيّين أو عربًا، يستحيلُ أن نكون شعبًا لبنانيًّا متَّحِدًا، وأن نحيا معًا وأن نبنيَ دولةً قويّةً وحضاريّة، في حين أنَّ تعدديّةَ المنشَأِ تؤسِّسُ وطنًا متَّحِدًا بعيدًا عن الأحَديّةِ القوميّةِ والدينيّةِ والثقافيّة. إنَّ الاعترافَ بالتعدديّةِ الحضاريّةِ هو إقرارٌ بالاختلافِ لا بالخلاف. وخلافَ ما نظنُّ، إنَّ الخلافَ السياسيَّ هو الذي أَجّجَ حربَ القوميّاتِ وصراعَ الطوائف بين اللبنانيّين وليس العكس. اليومَ، يَهربُ الجيلُ الجديدُ من القضايا الوطنيّةِ التي قسَّمت الأجيالَ السابقةَ إلى المعاناةِ الاجتماعيّةِ التي توحّدُه. نجحت الثورةُ في تغييرِ المجتمعِ، لكنّها لم تُغيّر الدولةَ بَعد. لا أستخِفُّ بالمسافةِ التي اجْتزناها نحو اتّحادِنا في المعاناة، لكنَّ ما يَنقُصنا بَعد هو توطينُ ولائِنا للبنانَ فقط.

Previous
Previous

ثورةٌ حتى... سويسرا

Next
Next

الاتّكالُ على أميركا رهانٌ مُقلِق