أَوقِفوا ممارسةَ الفدراليّةِ عشوائيًّا

أدعو بالتوفيقِ لكلِّ لبنانيٍّ قادرٍ على التكيّفِ مع نُسخةِ لبنان المشوَّهة. لكنّي أنتمي إلى جماعةٍ عابرةِ الطوائف ترفضُ التحوّلاتِ السلبيّةَ الحاصلةَ، تأبى وضعَ اليدِ على دولةِ لبنان، وتَحتفِظُ بالنُسخةِ الأصليّةِ الأصيلة. أنتمي إلى جماعةٍ قرّرت أن تقاومَ تغييرَ هويّةِ الأمّةِ اللبنانيّةِ وتَعدُّدَ الوَلاءاتِ والتقسيمَ الحضاريَّ والدويلاتِ الدينيّةَ والبؤرَ المتطرِّفة، أن تقاومَ الجهلَ الوافِد والانحطاطَ المقيم. لا هذا هو التعايشُ والميثاق، لا هذه هي تقاليدُنا والعادات، لا هذا هو تراثُنا والقيم، لا هذه هي الطوائفُ والمذاهب، ولا هذا هو الشعبُ الذي من أجلِه قام لبنان. للوحدةِ طريقٌ قويمٌ وسلوكٌ حَسن، وللافتراقِ طريقٌ مُتعرِّجٌ وسلوكٌ سيّئ. لا نستطيعُ أن نمارسَ نهجًا تقسيميًّا ونَتغنّى بالوِحدةِ الافتراضيّة. هذا يُسمّى في عِلمِ الأخلاقِ دَجلًا، وفي عِلم ِالوطنيّةِ خيانةً، في عِلمِ الأَحياءِ تلوّثًا، وفي عِلمِ النفسِ انفصامًا، وفي علمِ الاجتماعِ انفصالًا. الحريصون على الشَراكةِ الوطنيّةِ حَريٌّ بهم أن يَلتقُوا ويُجدِّدوا الشراكةَ انطلاقًا من وثائقِ إعلانِ دولةِ لبنان والميثاقِ الوطنيِّ واتّفاقِ الطائف وإعلانِ بعبدا. المرحلةُ تَستدعي أن نُنقِذَ لبنانَ التاريخيَّ لا صلاحيّاتِ هذه الطائفةِ وامتيازاتِ تلك. فكلُّ هذه "الأرباحِ الدفتريّة" جُيِّرَت بالقوّةِ أو بالغباءِ أو بالتواطؤِ إلى "حامِلِه"، فلم تُعْلِ طائفةً ولم تَبنِ دولة. حان الوقتُ لنَختارَ نظامًا للبنان لا لطائفة. كنّا ننتقدُ لجوءَ الدولةِ إلى خلقِ هيئاتٍ ميثاقيّةٍ رديفةٍ للمؤسَّساتِ الدُستوريّةِ من أجلِ اتّخاذِ قراراتٍ على المستوى الوطنيّ. عُذرًا. لقد تَبيّن أنَّ هذه الهيئاتِ الميثاقيّةَ هي الأساسيّةُ لأَنها تُعبِّرُ عن الواقعِ الفدراليِّ المعْمولِ به من دونِ تشريعٍ، بينما المؤسّساتُ الدُستوريّةُ أدواتٌ تقنيّةٌ تُنفِّذُ مركزيًّا ما يُتّخذُ فدراليًّا، وتُسوِّقُ شرعيًّا ما يَتقرَّرُ طوائفيًّا. ما يَجري عمومًا هو يُجسِّدُ الواقعَ الفِدراليِّ الذي يَتحاشى الجميعُ الاعترافَ به، رغم أنّهم يُطبّقونه بأمانةٍ وإخلاص. مجلسٌ رئاسيٌّ فِدراليّ يتّفِق على القراراتِ الفدراليّةِ، ومجلسُ وزراءٍ تِقنيٍّ يُنفِّذُ بدقّةٍ وخشوعٍ ما يَتبلّغُه. آخِرُ تَجلّياتِ هذا الواقعِ الفدراليِّ الرسميِّ حَصلَ يومَ 07/03/20، حين التقى الرؤساءُ الثلاثةُ، عون وبري ودياب، قُبيلَ جلسةِ مجلسِ الوزراء واتّخذوا قراراتٍ ماليّةً على الصعيدِ الفدراليّ وحوّلوها إلى عنايةِ الحكومةِ لإعلانِها إعلاميًّا. لا أنتقدُ الواقعةَ فهي تؤكّدُ ما أكتب عنه تواليًا وأُلامُ عليه تواترًا، إنّما أضْبُط بـــ"الجُرمِ المشهودِ" ممارسةَ الفدراليّةِ خارجَ "المنزلِ الدستوريّ" وعلى حسابِ المؤسّساتِ المركزيّة. إلا أنَّ المجلسَ الفِدراليَّ الأخيرَ اعْتراهُ نَقصٌ في التمثيلِ لأنَّ المجتمعِين، يُـمثّلون سياسيًّا طرفًا واحدًا ولو تَعدّدت طوائفُهم. هكذا، حَصَل اعتداءٌ مزدوِجٌ على مؤسّساتِ النظامِ المركزيِّ، وعلى المكوّناتِ الفِدراليّة الأخرى. تكوينُ الدولةِ اللبنانيّةِ فدراليٌّ بامتياز، إذ إنَّ التوافقَ الطائفيَّ هو ما يُغطّي أيَّ قرارٍ وطنيٍّ على أيِّ صعيد: من تلك الصورةِ الفوتوغرافيّةِ الجامعةِ أركانَ جميعِ الطوائفِ لإعلانِ "لبنان لكبير" في قصرِ الصنوبر سنةَ 1920، إلى قراراتِ الاستقلالِ والدستورِ والميثاقِ الوطنيّ سنةَ 1943، وصولًا إلى "وثيقةِ الطائف" سنةَ 1989 والـــ"ترويكا الرئاسيّة"، مرورًا بمجموعةِ مؤتمراتٍ ومصالحات. استنادًا إلى هذه الدساتيرِ والمواثيقِ والوقائعِ، وكلُّها اتحاديّةُ الجوهرِ، والنصِ أحيانًا، لاسيّما اتفاقُ الطائف، لجأ الحكمُ في لبنان إبّانَ الأزماتِ الوطنيّةِ إلى تشكيلِ حكوماتٍ مُصغَّرةٍ تَضمُّ أقطابَ الطوائف الرئيسةِ. واعتمدَ بعدَ الطائف حكوماتِ التوافقِ الطائفيِّ قاعدةً عوضَ حكوماتِ الأكثريّةِ النيابيّة، وربَط مقرّراتِها بمفهومٍ جديدٍ للميثاقيّةِ هو أقربُ إلى المفهومِ الفدراليِّ منه إلى المفهومِ البرلمانيِّ، إذ أعطى حقَّ الفيتو لتكويناتِها الطائفيّةِ لا لتمثيلِها البرلمانيّ. راح الحكمُ يدعو إلى هيئاتِ حوارٍ وطنيٍّ بديلًا عن مجالسِ الوزراءِ لمناقشةِ القضايا الكبرى كالسلاحِ غيرِ الشرعي، والحيادِ، وقرارِ الحربِ والسلم، والإصلاحاتِ الدستوريّةِ، واللامركزيّةِ، والتزامِ القراراتِ الدوليّة، وترسيمِ الحدود. ارتَكبت الدولةُ كلَّ ذلك على حسابِ النظامِ المركزيِّ والفصلِ بين السلطات، ويَستمرُّ الفدراليّون يردِّدون: "مَعاذَ الله من الفدراليّةِ". لا تَنتهي لائحةُ السلوكِ الفِدراليِّ تحت مُسمّى التوافقِ. فما رأت خُطّةٌ أمنيّةٌ طيفَ تنفيذٍ في الجَنوبِ والبقاعِ والشمالِ وبيروتَ والضاحيةِ والشوف من دون تفاهمِ الدولةِ مُسبقًا مع المرجعيّاتِ الطائفيّةِ في تلك المناطق. وما من منطقةٍ، باستثناءِ جبلِ لبنان، إلا وخُصَّت بصناديقَ ومجالسَ موازيةٍ موازنةَ الدولةِ المركزيّة. بَلغ هذا التوزيعُ الفدراليُّ الأجهزةَ الأمنيّةَ والمخابراتيّةَ فصارَ كلُّ جهازٍ محسوبًا على طائفة. حتىّ أنَّ الثروةَ النفطيّةِ ومَحطّاتِ الكهرباءِ وشبكاتِ الطرقاتِ والوظائفَ العامّةَ ولوْحاتِ الإعلانات تتوزّعُ على أساسٍ فدراليٍّ أكثرَ مـمّا على قاعدةِ الإنماءِ المتوازِن. وأصلًا، ليست كلمةُ محاصَصةٍ سوى تعبيرٍ عاميٍّ عن فدراليّةٍ غيرِ دستوريّة. شاهدٌ آخَرُ على الحالةِ الفدراليّةِ القائمةِ: توكيلُ الرئيسِ نبيه برّي بصفتِه ممثّلًا الثنائيّةَ الشيعيّة، قيادةَ التفاوضِ بشأنِ ترسيمِ الحدودِ واقتسامِ النفط مع إسرائيل، كأنَّ الجنوبَ كانتونٌ شيعيٌّ وليس محافظةً تابعةً للدولةِ المركزيّة. فما يُقرّره هذا الثنائيُّ الفدراليُّ تَقبل به الدولةُ المركزيّةُ وتُباركه الكانتونات الأُخرى. كلُّ تصرفاتِنا تُثبِتُ أنّنا دولةٌ فدراليّةٌ مكتومةُ القيدِ في نظامٍ مركزيٍّ على الورق. إن الواقعَ الاجتماعيَّ في لبنان تَخطّى الواقعَ الدستوريَّ والسياسيَّ، لا بل تجاوزَ الواقعَ الطائفيَّ التقليديَّ أيضًا في السنواتِ الأربعين الماضيةِ. أصبح الُمعطى الاجتماعيُّ أقوى عنصرٍ تقريريٍّ لمستقبلِ النظامِ السياسيِّ في لبنان. هذا الواقعُ الاجتماعيُّ الجديدُ، مُضافًا إلى الواقعِ الديمغرافيِّ، صار منفصِلًا عن الصيغةِ اللبنانيّةِ والشراكةِ الميثاقيّة. فلا النظامُ يُجسّدُ المجتمعَ ولا المجتمعُ يواكِب الصيغة. عقائدُ وعاداتٌ وأنماطُ حياةٍ خارجةٌ عن المألوفِ اللبنانيِّ بتكوينِه المسيحيِّ والإسلاميّ نَخرَت الحالةَ الاجتماعيّةَ اللبنانيّةَ. وإذا لم يَتكيّف النظامُ السياسيُّ مع الواقعِ المجتمعيِّ من خلالِ هندسةٍ دستوريّةٍ تَحفَظُ وِحدة الكيان، فلن نستطيعَ أن نَضبُطَ مسارَه التقسيميّ. وإذا تَعمّقنا في أسبابِ فشلِ الدولةِ نجدُ أنَّ السلطةَ، طوالَ العهودِ والحكوماتِ المختلِفةِ، سَعت إلى أن تَحكُمَ مركزيًّا مجتمعًا فدراليًّا بتكوينِه، فنشأ الصراعُ بين الدولةِ والمكوِّنات ونَبتَت الدويلاتُ المعلنةُ والـمُضمَرة. ليس الرهانُ اليومَ الذهابَ إلى الفِدراليّةِ، بل العودةُ منها، أو على الأقل تطبيقُها دستوريًّا وحضاريًّا.

Previous
Previous

كورونا حركةٌ "تصحيّحيةٌ" عالميّة

Next
Next

المستحيلان الوِحدةُ المركزيّةُ والتقسيم