البطريركُ الراعي والحاكِمُ الباقي
ليس بجديدٍ أنَّ لبنانَ ساحةُ صراعٍ بين أميركا وإيران. وإذا كان حزبُ الله رأسَ الحربةِ الإيرانيّةِ، فرؤوسُ الحِرابِ الأميركيّةِ التقليديّةُ عَلاها الجِنْزارُ منذ سنوات. صحراءُ سياسيّة: لا قرنةُ شهوان، ولا 14 آذار، ولا ثورةُ أرز، ولا حتى شِلحُ أرز. تَعلمّوا ألّا يَثقوا ببعضِهم البعض، ويَترقّبون التطوّراتِ العسكريّةَ أو التسوويّةَ الآتيةَ قبيْلَ الانتخاباتِ الرئاسيّةِ الأميركيّةِ أو بُعيْدَها. هكذا تَمحّورَ الصراعُ (الآن) بين حزبِ الله ومَصرفِ لبنان. ومن دون استشارتِه جعلوا رياض سلامة رأسَ الحربة. "ما كانتِ الحسناءُ تَرفعُ سِتْرها ــــــ لو أنَّ في هذي الجموعِ رجالا". حوّلوه جَبهةً سياسيّةً إلى كونِه أصلًا هدفًا ماليًّا واقتصاديًّا. بات هو جَبهةَ السيادةِ والاستقلال في غيابِ الجَبهةِ السياسيّةِ التقليديّة. تُرِك وحيدًا إذ اخْتلطَ على البعضِ الفارقُ بين سقوطِ رياض سلامة المرشّحِ لرئاسةِ الجمهوريّةِ ورياض سلامة حاكمِ مَصرِف لبنان. وهكذا أُضيف إلى الصراعِ الإيرانيّ/الأميركيّ صراعٌ مارونيٌّ/مارونيّ ضاهى الصراعَ الأول. كأنَّ رياض سلامة المنافِسُ الوحيدُ للمرشَّحين الموارنِة الآخَرين. ما كنت أعلمُ أنّنا نحن الموارنةَ استبدلنا الاستشهادَ بالانتحارِ، والمحبّةَ بالبُغض. في غيابِ أهلِ النظامِ وروّادِ السيادةِ والاستقلالِ والديمقراطيّة، انبرَى البطريركُ بشارة الراعي يُذكِّرُ المسؤولين والشركاءَ بالثوابتِ، يُعيد رسمَ حدودِ الميثاقيّةِ اللبنانيّةِ والقواعدِ الأخلاقيّةِ في المخاطَبة. كان الحِقدُ يَخرُج من فَمِ البعضِ لا الكلمات. وكان الانتقامُ يَتدفَّقُ لا الإصلاح. كان ضعيفًا هذا البعضُ وهو يَستقوي بالسلاحِ غيرِ الشرعيّ على مالِ الشرعيّة. شاءَ البطريركُ المارونيُّ أن يُبلِغَ بثقةٍ ووضوحٍ من يَعنيهم ـــ أو مَن لا يَعنيهم ـــ أمرَ لبنانَ الكبير، أنه يُحظَّرُ عليهم اعتبارُ المسؤولين الموارنةِ في الدولةِ مَكسَرَ عصا: اليومَ حاكمُ مَصرفِ لبنان، غدًا قائدُ الجيش، وبعدَ غدٍ رئيسُ مجلسِ القضاء، وقريبًا جدًّا رئيسُ الجُمهوريّة. لم يُدافِع البطريرك، ولا أنا أدافعُ هنا، عن شخصِ رياض سلامه ـــ وهو يَستحِقُّ أن يُدافعَ عنه ـــ بل عمّا يُمثّلُه في هيكليّةِ النظامِ اللبنانيِّ وميثاقيّتِه. قيمةُ المسؤولِ المارونيِّ أن يكونَ قُدوةً وإلا يَفقِدُ صفتَه التمثيليّةَ على صعيدِ طائفِته. لم يُبرّئ البطريركُ حاكمَ مَصرِف لبنان كما لم يُدِنْه، بل طالبَه بأن يدافعَ عن نفسِه ويكشِفَ الحقائق. وقد دافعَ أمس عن نفسِه بجرأةٍ وأدلّةٍ فأَدانَ عدلًا مَن أدانَه ظلمًا. استعاد البطريركُ بشارة الراعي المبادرةَ والدورَ بعدما لاحظَ بأسفٍ تلكؤًا وطنيًّا في التصدّي لمشروعِ تغييرِ وجهِ لبنان وهُويّتِه. لذلك رَبطَ موقِفَه بمسؤوليّتِه التاريخيّة إذ قال: "نحن الكرسيَّ البطريركيَّ المؤتـمَنَ تاريخيًّا ووطنيًّا ومعنويًّا على الصيغةِ اللبنانيّة نُحذّر"... إنَّ همَّ البطريركِ الراعي أن يَبقى لبنانُ في مدارِ العالمِ الحرِّ المتحضِّر، أن تدومَ العدالةُ هي قاعدةَ وجودهِ لا الظُلم. أن تظلَّ الثقةُ الدوليّةُ بلبنانَ هي الأساسَ لا العُزلة. أن يَرعى مصيرَ الوجودِ المسيحيِّ، والمارونيِّ خاصة، في الدولة لكي يَبقى للشراكةِ الوطنيّةِ معنى ولوِحدةِ لبنان مُبرِّرُ استمرار. ولا خجلَ ولا عقدةَ ولا استئذان بأن يقوم بذلك. حقُّ البطريرك، بل دورُه، أن يقولَ الكلمةَ الفَصل ساعةَ يَشاء وبوجْهِ من يَشاء وحولَ ما يَشاء. قالتْها البطريركيّةُ في وجهِ الأمويّين والعَباسيّين والفاطميّين والمماليك والعُثمانيّين، قالتْها في وجهِ الفرنسيّين والإسرائيليّين والفلسطينيّين والسوريّين، قالتها في وجهِ الحكّامِ اللبنانيّين حين انحرفوا عن الوطنيّةِ والثوابت. فكيف لا تقولُها اليومَ في وجهِ الانقلابيّين؟ الاعترافُ بدورِ بكركي ليس وَقفًا على مزاجِ هذا أو ذاك. في العُسْرِ يَلجأون إليها ويَلُجّون: "احْمينا واجْمعينا وأنْقذينا"، وفي اليُسْرِ يَنسَوْن طريقَ بكركي ويُنكِرون. لماذا يُرحِّبون بتدخّلِ البطريركِ والمفتي وشيخِ عقلِ الدروز في السياسةِ حين يَدعَمونَهم ويُحظّرون عليهم التدخّلَ حين يُعارضونَهم؟ ألا يُدرك هؤلاءِ أنَّ بكركي هي المرجِعيّةُ الوطنيّة، وهي المؤتمرُ التأسيسيُّ الدائمُ؟ وهي رائدةُ التعايشِ المسيحيِّ ـــ الإسلامي والمصالحةِ المسيحيّةِ ـــ الدُرزية؟ وهي الداعيةُ إلى تصويبِ تطبيقِ اتفاقِ الطائف؟ لو يَقرأون تاريخَ لبنان وتاريخَ بكركي والعلاقةَ السببيّةَ بينهُما لَـما تَورّطوا في إعطاءِ أمثولاتٍ للصَرحِ وسيدّه. دورُ الصَرحِ البطريركيِّ وطنيٌّ بقدْرِ ما هو روحيّ. راجِعوا مواقفَ البطاركةِ الحويك وعريضة، مرورًا بالمعوشي وصفير، وصولًا إلى البطريرك الراعي. لا سياسيَّ ناجحًا لا يَعرِفُ التاريخ. هل يَحقُّ لرجالِ الدينِ الشيعةِ فقط أن يَتدخّلوا في السياسةِ والأمنِ والقتالِ ويُرشِدوا ويُقرِّروا ويُهاجموا فيما هو ممنوعٌ على رجالِ الدينِ المسيحيّين والسُنّةِ والدروز؟ ما هذه الذِميّةُ الجديدةُ؟ وبالمناسبةِ، هل تَعتبرون السيّدَ حسن نصرالله رجلَ دينٍ أو رجلَ سياسة؟ إذا كان رجلَ دينٍ لماذا يتعاطى السياسةَ؟ وإذا كان رَجلَ سياسيةٍ لماذا يَترأّسُ حزبًا دينيًّا؟ وإذا كان الإثنين معًا لماذا تَنتقدون الآخرين؟ حين يُدافع البطريركُ عن رموزٍ مسيحيّةٍ فَعَن كلِّ رمزٍ وطنيٍّ آخَر يدافعُ، لأنَّ الانقلابَ الجاري لا يُوفِّرُ أحدًا، حتى بعضَ المشاركين فيه. لقد نَاصَرت بكركي الجَنوبَ حين كان مُحتلًّا والشيعةَ حين كانوا محرومين والسُنّةَ حين كانوا مَغبونين والدروزَ حين كانوا مُهمَّشين والمسيحيّين حين كانوا مُحبَطين. وغدًا حين تَعلو المطالبةُ باستقالةِ رئيسِ الجُمهوريّة سيَجِد البطريركَ (ونحن معه) يدافع عنه كما فَعلَ في تشرين الثاني الماضي حين طالب البعضُ باستقالتِه غيرَ عابئين بشغورٍ رئاسيٍّ مُحتمَلٍ. يومَ حَصل الشغورُ السابقُ عندَ نهايةِ ولايةِ الرئيس ميشال سليمان، كان رئيسُ الحكومةِ تمام سلام، الشخصيّةَ الوطنيّةَ الممتلئةَ أخلاقًا ونُبلًا وتهذيبًا وحِرصًا على الميثاقيّةِ والديمقراطيّةِ وعلاقاتِ لبنان مع العربِ والعالم. أما اليوم، فلِمَن توكَلُ الشرعيّةُ في فترةِ الشغورِ؟ ألهذه الحكومةِ التي لا تَملِكُ رخصةَ قيادة بلدٍ لا أيّامَ المفردِ ولا أيّامَ المزدَوِج؟ هناك من يُعيد البلادَ إلى زمنِ الخطيئةِ الأصليّة: الشَهوةُ. أنْ تشتهيَ تفاحّةَ غيرِك. وفي وضعِنا اللبنانيِّ أنْ تَشتهيَ حُكمَ غيرِك. وإذا كانت في الشهوةِ الإنسانيّةِ لِذّةٌ ففي الشهوةِ السياسيّةِ طَمَعٌ وجَشَعٌ وشَرَهٌ ونَـهَمٌ. نراهم يَشتهون مناطقَ غيرِهم، وممتلكاتِ غيرِهم، ومناصبَ غيرِهم، وحاكميّةَ غيرِهم، وصلاحيّاتِ غيرِهم، وهِلالَ غيرِهم، وصليبَ غيرِهم. لا مِن صَلْبِ المسيحِ تَعلّموا ولا من قيامتِه، لا مِن آياتِ النبيِّ محمد تَعلّموا، ولا من شَهادةِ الإمام عليّ تَعلّموا. فأيَّ إلهٍ يَعبُد هؤلاء؟ وأيَّ رسولٍ يَنتظرون؟ لن تَمضيَ على سلامة.