متى نَبلُغُ لبنانَ الكبير؟
لا نستطيعُ أن نكونَ تَبعيّين ونُطالبَ العالمَ أن يتعاطى معنا على أنّنا مستقلّون. نَستَفْظِعُ تدخّلَ دولٍ أجنبيّةٍ في الأزْمةِ بقَصْدِ معالجتِها، ولا نَستَهْجِنُ تَدخُّلَ دولٍ أخرى في لبنانَ لإشعالِ الأزَمات. فلولا الدولُ التي اسْتباحَت لبنانَ ودَمَّرته، لما أباحَت الدولُ الأخرى لنفسِها معالجةَ شأنِنا بغيةَ إنقاذِنا. الأولى تدخّلَت رَغمًا عنّا والأُخرى بِناءً على إلحاحِنا. في لبنانَ مَن يَحمِلُ الفأسَ لقطعِ أيِّ يدٍ تَمتدُّ مساعِدةً، كأنَّ هدفَ هؤلاءِ قتلُ لبنانَ الكبير بما يُمثِّلُ من خصائصَ، وأنَّ مشروعَهم نقلُ لبنانَ من التعدُّديّةِ في الوِحدةِ إلى التعدُّديّةِ في الأحَدِيّة. إنَّ من يأتي بوصايةٍ من هنا، يجب أنْ يَنتظرَ وصايةً من هناك. هذا تاريخُ لبنانَ مُذْ كان. فالشعوبُ تتحرّكُ عمومًا في دورةٍ تاريخيّةٍ تُكرِّرُ دورانَها بأشكالٍ مختلفةٍ. ولا تتوقّفُ هذه الدورةُ إلا حين يَنطلقُ الشعبُ في مسارٍ مستقبليٍّ جديدٍ يدوم رَدْحًا زمنيًّا ثابتًا وناجحًا يُمكِّنُه من خلقِ دورةٍ تاريخيّةٍ جديدة. نحن في لبنان، خَرجنا من دورتِنا التاريخيّةِ مدّةً غيرَ كافيةٍ (1943/1969) لخلقِ دورةٍ جديدةٍ، فالتَقطَتْنا الدورةُ السابقةُ وبَقِينا فيها. كأنَّ حتميّةَ التاريخِ أقوى من تقريرِ المصير. قَلّما عِشْنا في الاستقلالِ الناجزِ رغمَ نضالِنا في سبيلِه. أمْضينا الوجودَ، قبلَ لبنانَ الكبير وأثناءَه، بين وصايةٍ واحتلالٍ أو بين حكمٍ ذاتيٍّ واستقلالٍ نسبيّ. وإذا كانت الاحتلالاتُ قبلَ نشوءِ دولةِ لبنانَ الكبير عادةَ تلك العصورِ حين لم تكن بعدُ حدودٌ دوليّةٌ ولا قوانينُ دوليّةٌ، فالاحتلالاتُ التي "شرَّفتْنا" بعدَ الاستقلالِ أتَت بناءً على دعوةٍ منّا أو استغاثة. لدينا، نحن اللبنانيّين، نزعةُ التنازلِ للغريبِ عوضَ التنازلِ بعضُنا للبعضِ الآخَر. هذه آفَةٌ ناجِمةٌ عن آفةِ تعدّدِ الولاءات. لا نزال نُحدِّدُ اللبنانيَّ الآخَر على أساسِ ولائِه الخارجيِّ لا على أساسِ انتمائِه اللبنانيِّ، فنقول: هذا سوريٌّ، وهذا فِلسطينيٌّ، وهذا إيرانيٌّ، وهذا سعوديٌّ، وهذا مصريٌّ، وهذا فرنسيٌّ، وهذا أميركيٌّ، وبالصُدْفةِ نَقعُ على لبنانيِّ... فقط. وإذا كنتُ ضِدَّ أيِّ شكلٍ من أشكالِ الوصايةِ، أَأَتَت من الشرقِ أم من الغرب، يبقى فارقٌ بين وصايةٍ مفيدةٍ وأخرى مُضِرّة. العالمُ يَعرفُ وصاياتٍ حَملَت الاستقرارَ والاستثمارَ والعمرانَ والرُقيَّ والحضارةَ ودَرّبت الشعوبَ على ممارسةِ الديمقراطيّة، ويعرفُ أيضًا وصاياتٍ جَلَبت الحروبَ والعُزلةَ والانحطاطَ والتخلّفَ والانهيارَ وعَلّمَت الشعوبَ الخضوعَ للديكتاتوريّة. والغرابةُ أنَّ فئاتٍ لبنانيّةً تَتَعَمَّدُ اعتبارَ المساعدةِ وصايةً، ولا تَجِدُ في الاحتلالِ وصاية. كيف لفئاتٍ سَدَّت في وجهِ الشَعبِ سُبلَ الإنقاذِ الداخليِّ، أن تَذُمَّ أصدقاءَه وتَنتقدَهم حين يَهُبّون لمساعدتِه؟ بأيِّ حقٍّ تمتَنِعُ هذه الفئاتُ عن إنقاذِه وتمنعُ إنقاذَه؟ باسمِ الكرامة الوطنيّة؟ أيُّ كرامةٍ والشعبُ يَجوعُ ويَفتقرُ ويَستجْدي ويُذَّلُ ويموت؟ وأيُّ سيادةٍ والوطنُ مخطوفٌ ومصادَرٌ ومستباحٌ ومُفَكَّك؟ والأَغربُ أنَّ تلك الفئاتِ تُسقِطُ الحلَّ اللبنانيَّ، والحلَّ العربيَّ، والحلَّ الفرنسيَّ، وتَعترِضُ على الحلِّ الدوليِّ الذي هو نتيجةُ عبثِها بوجودِ لبنان. لا شيءَ يُعجِبُها، فيتأكّدُ أنَّها تَحمِلُ مشروعَ أزْمةٍ دائمةٍ لا مشروعَ حلٍّ نهائيّ. ما كانت غالِبيّةُ اللبنانيّين ترحِّبُ بالدورِ الدوليِّ لو لم تَشعُر أنّها تحتَ وصايةٍ إيرانيّةٍ بقبضةِ حزبِ الله وسيطرتِه على الدولة، ولو لم تؤدِّ هذه الوصاية ــــ بغضِّ النظرِ إنْ كنا معها أو ضِدّها ـــ إلى نتائجَ كارثيّةٍ على الأصعدةِ الدستوريّةِ والسياسيّةِ والأمنيّةِ والاقتصاديّةِ والمعيشيّةِ والديبلوماسيّة، بكلمةٍ: إلى انهيارِ البلاد. دعوا السياسةَ جانبًا، الأرقامُ تتكلّمُ والوقائع. وها نحن اليوم نواجِهُ صِراعًا دوليًّا/إيرانيًّا على أرضِ لبنان لا نَعرفُ مَداه وكيفيّةَ تطوّرِه. لم يتغيّر شيءٌ علينا لأنّنا لم نَتغيّر. لا نزالُ شعبًا يَتقاتلُ كأنّه ألفُ شعبٍ وألفُ قبيلة. تَجمُعنا غريزةُ الصراعِ والخلافِ لا طبيعةُ الوئامِ والتكامل. كلُّ ما جَمعناه، فَرحين، في وِعاءِ الوِحدةِ يَتبعثرُ ما إِن نَرتطِمُ بأزْمةٍ تلامسُ أهدابَ طائفةٍ أو مذهَبٍ أو مَعبودِ جماهير. في أقلَّ من أربعٍ وعشرينَ ساعةً تَنفَجرُ الأحقادُ القديمةُ التي تَوهمّنا أنها دُفِنت إلى غيرِ رَجعة. نَنظُر إلى الدولةِ نظرةً تجاريّةً نَبغي الربحَ منها لا نظرةً وطنيّةً تُرسِّخُها. انقساماتُنا، معطوفةٌ على أدائِنا، جعلَت العالمَ يتعاطى معنا كشعبٍ عاجزٍ عن إدارةِ شؤونِه بنفسِه. تدلُّ على ذلك طبيعةُ "الحَراكِ" الدوليٍّ تجاهَ لبنان وهو شَبيهٌ بحَراكِه في القرنِ التاسع عشر: جمعيّاتٌ وسفاراتٌ تَستقْصي وتُرسِلُ تقاريرها إلى دولِـها، فرنسا تَتحرّك فيواجِهُها البابُ العاليّ (إيران حاليًّا). موفدون يأتون، وزراءُ يَجتمعون ويُشكِّلون لجانًا ديبلوماسيّةً للمتابَعة. الفاتيكان يَتدخّلُ لدى دولِ القرارِ للمحافظةِ على المسيحيّين والشراكةِ مع المسلمين. الأممُ تُنظِّمُ مؤتمراتٍ اقتصاديّةً تحضِّرُ لأُخرى سياسيّة، إلخ... اللافتُ أنَّ ما يَقترحه المجتمعُ الدوليُّ على اللبنانيّين سنةَ 2021 هو صورةٌ طِبقُ الأصلِ عمّا اقترحَه مندوبو أوروبا سنتَي 1850 (مؤتمر ڤيينا) و1860 (تنفيذُ نظامِ المتصرفيّة): "إرسالُ بَعثةٍ أمميّةٍ لتقصّي الحقائق، تقريرُ مصيرِ وِحدةِ لبنان (جبلُ لبنانَ آنذاك)، إنجازُ مصالحةٍ بين المتنازعِين، إجراءُ إصلاحاتٍ في السلطةِ الحاكمةِ، نزعُ كلِّ السلاحِ من أيدي جميعِ الفئاتِ اللبنانيّةِ، وحصرُ القوّةِ العسكريّةِ بأجهزةِ الدولة". التكرارُ ذاتُه حَصل أيضًا في مؤتمرِ القِمّةِ العربيّةِ (الرياض 1976) لوقفِ حربِ السنتين في لبنان، إذ جاءت مُقرّراتُه (وقفُ الحربِ وإرسالُ قوّاتِ ردعٍ عربيّةٍ لمدّةٍ ستةِ أشهر) مطابِقةً كليًّا مقرّراتِ مؤتمرِ ڤيينا. لكنَّ الفارقَ أنَّ القواتِ الفرنسيّةَ التي دَخلت جبلَ لبنان سنةَ 1860 التزَمَت بقرارِ ڤيينا وانسحبت بعد 9 أشهرٍ إثرَ وقفِ القتال، بينما القوّاتُ السوريُّة هَشَّلَت قوّاتِ الردعِ العربيّةَ وبَقيَت وحدَها ثلاثينَ سنةً لا ستّةَ أشهرٍ، وأشْعَلت حروبًا جديدة... كلُّ ذلك يعني أَنَّ: 1) التقدّمَ الوِحدويَّ والسلميَّ الذي حَقّقه الشعبُ اللبنانيُّ عبرَ المئةِ سنةٍ المنصرِمةِ لم يكفِ لإنشاءِ دولةٍ لبنانيّةٍ مستقلّةٍ ومستقرّةٍ، قادرةٍ على توحيدِ مكوّناتِها وطيِّ صفحاتِ الانقساماتِ التاريخيّة. 2) التعدّديّةَ اللبنانيّةَ، في غيابِ الحِيادِ ووِحدةِ الولاء، عاجزةٌ عن الصمودِ في شكلٍّ وِحدويٍّ مركزيٍّ في مواجهةِ "فَدْرَلةِ" الـمِنطقة. 3) المستوى الحضاريَّ المتراجِعَ في مجتمعاتِنا صار دونَ مستوى رسالةِ لبنان ولبنانَ الرسالة. 4) لبنانَ يحتاجُ، كلَّ فترةٍ، إلى إعادةِ "تشريجٍ" دوليٍّ ليحافظَ على الحدِّ الأدنى من التماسُكِ والاستقرار؛ لكن إلى متى؟