عَجزٌ عن الحلِّ وعن السلامِ وعن الحرب
السنةُ جديدةٌ والأحداثُ قديمةٌ. قد تَشهدُ ربطَ نزاعٍ فبدايةَ حلٍّ، أو فكَّ نزاعٍ فاستمرارَ الأزْمة. والواقع هو التالي: في لبنان من يريدُ إجراءَ التغييرِ الدُستوريِّ قبل انتخابِ رئيسِ الجُمهوريّةِ لتكونَ الرئاسةُ ضِمنَ نقاطِ المساومةِ. وهناك من يريدُ إِجراءَ التغييرِ بعد انتخابِ رئيسِ الجُمهوريّةِ لتبقى الرئاسةُ بمنأى عن التفاوُض. هناك مَن يُفضِّلُ إجراءَ حوارٍ داخليٍّ من دونِ تَدخّلٍ خارجيٍّ (بخاصّةٍ غربيّ) ليَتحكّمَ بمقرّراتِ الحوارِ بعيدًا عن ضمانةٍ عربيّةٍ أو دُوليّة ويَنقُضَه كما فعل بــــ"إعلان بعبدا" سنةَ 2012. وهناك مَن يُصِرُّ على إجراءِ الحوارِ برعايةٍ دُوليّةٍ لتَضمَنَ الأممُ المتّحدةُ أيَّ اتفاقٍ لبنانيٍّ في إطارِ القوانينِ الدُوَليّة كما جَرت العادةُ تاريخيًّا. وهناك مَن يؤْثِرُ الانطلاقَ في الحوارِ من الصِفْرِ كأنَّ لبنانَ أرضٌ بُورٌ برَسمِ البناء. وهناك مَن يَعتبر أنَّ لبنانَ قائمٌ ومُكتمِلٌ، وإجراءَ تعديلاتٍ على هيكليّتِه من نوعِ اللامركزيّةِ الموسّعة تَكفي لتجديدِ شبابِه. الاستنتاجُ الأوّل هو وجودُ إجماعٍ على ضرورةِ إحداثِ تغييرٍ بُنيويٍّ في لبنان، والثاني هو وجودُ اختلافٍ كبيرٍ على نوعيّةِ هذا التغييرِ لأنَّ مفهومَ التغييرِ يَتراوح بين من يَرغبُ في بناءِ دولةٍ عصريّةٍ يتساوى فيها الجميع، ومن يَبتغي بناءَ دولةٍ يُسيطر فيها على نظامِها وقراراتِها ومصيرِها. هكذا نبدو بَعيدين، بعدُ، عن الحلِّ. لكنْ من الصَعبِ أن يُحقِّقَ بعضُ الأطرافِ الطامحين غَلَبةً سياسيّةً ودستوريّةً خارجَ الواقعِ اللبنانيّ. فمُذ كان لبنانُ رافقَه خطٌّ أحمرُ يُنظِّمُ توازناتِه ويَعدِلُ بين مكوّناتِه بشكلٍ أو بآخَر بمنأى عن القوّة. المسألةُ تَتعدى الحِرصَ على لبنانَ الكبير أو الصغيرِ أو دستورِ 1943 أو اتفاقِ الطائف. الجميعُ مدعوُّون إلى تقييمِ التجربةِ التي يُؤْمِنون بها بموضوعيّةٍ وصِدقٍ وضمير، وإلى اعتبارِ كلِّ هذه التجاربَ الدستوريّةِ ليست جامدةً، بل يُبنى عليها لتعزيزِ الوجودِ اللبنانيّ. لبنانُ دولةٌ طوائفيّةٌ كان يُفترَضُ أن تَتحوّلَ دولةً مدنيّةً، لكنها تَحوّلت دولةً طائفيّةً مع التعديلاتِ التي طرأت على دستورِها، ويُصِرُّ البعضُ على تحويلِها دولةً مذهبيّة. ليس لبنانُ خيمةً نَنقُلها من مَرْبَعٍ إلى آخَر، ومن هُويّةٍ إلى أُخرى، ومِن محورٍ إلى آخَر، ومن انتماءٍ إلى آخَر. لبنانُ وطنٌ قبلَ أن يُصبحَ دولة. منذ ما قبلَ المسيح والكتبُ المقدّسةُ والتاريخيّةُ تَذكُر جبلَ حرمون لبنانَ، وأرزَ لبنان ومدنَ جَنوبِ لبنان وشمالي لبنان، ومدرسةَ الحقوقِ في بيروت، وسِلسلَتَي جبال لبنان، وساحلَ لبنانَ وسهلَه. وحين أنْشأنا دولةَ لبنانَ الكبير، لم نَجَمع عقاراتٍ من هنا وهناك، ولم نستأجِر أراضيَ ليست لبنانيّةً، ولم نَقترِضْه من صندوقِ النقدِّ الدُوَليّ، ولم نَصطَنعْه من عَدَم. كان قبلَ أن نكونَ وسيبقى للأجيالِ من بعدِنا. وهذا هو لبنان. يَتوهّمُ من يَعتقد أنه قادرٌ على جعلِ لبنانَ دولةً دينيّة. نحن أعْصِياءُ على هذه النماذج التي تظلُّ خارجَ العصرِ ودولَ استبدادٍ وإذلالٍ للإنسان. لذا، أيُّ لبنانَ آخَرَ يعتزمُ البعضُ بناءَه؟ أعَلى صورةِ سوريا المقطّعةِ الأوصال؟ أم على صورةِ العراق الذي يُعاني من الهيمنةِ الإيرانيّة؟ أم على صورةِ إيران ونظامِها الأمنيِّ الدينيِّ وقَمعِها المرأة؟ أم على صورةِ اليمن الممزَّق؟ أم على صورةِ إسرائيل التي لا تَعترف بحقِّ الفِلسطينيّين؟ الخطورةُ في أن نُخطئَ تقييمَ مخطّطاتِ الخصمِ وأهدافِه الحقيقيّة، فنتعاطى معه خلافَ أهدافِه ونقعَ في الهزيمة. بواقِعه الحاليِّ لا يستطيعُ لبنان أن يواجِهَ هذه العاصفةَ الهوجاءَ التي تَتميّزُ بفريقٍ قوّتُهُ بسلاحِه الخارجيِّ وآخَرَ قوّتُه بقوّتِه الوطنيّة. وهنا مصدرُ التعطيلِ لأنَّ الفريقين ــــ حتى الآن ـــ ليسا مُتشَجِّعَين للمواجهةِ العسكريّةِ لأنَّهما سيَخرجان مهزومَين، والمكاسبُ الدُستوريّةُ التي يَسعى البعضُ إليها لا تساوي مُخلَّفات الحرب. والزيارةُ التي قام بها حزبُ الله إلى الصَرحِ البطريركيِّ المارونيِّ منذ يومين نتمنّاها فاتحةَ حوارٍ جِدٍّي حول القضايا الأساسيّة. ما قيلَ إنها كانت ثورةً سنةَ 2019 لم تكن بثورةٍ، وأدّت إلى تعزيزِ دورِ الطبقةِ السياسيّةِ إنْ في الانتخاباتِ النيابيّةِ أو في الانتخاباتِ الرئاسية. لكنَّ في وجِدانِ الشعب غَليانًا غيرَ معلَنٍ لا نعرف متى وكيف سينَفجر. ولا بدَّ مِن أن يَنفجرَ إذا وَجَد القائد. هذا مَنطقُ التاريخ. مهما تغاضَينا عن الواقعِ المرير، لبنانُ مُعرّضٌ لأحداثٍ ولتغييرٍ واسع. وسَبق أن عَرَفَ لبنانُ امتحاناتٍ سلميّةً وأخرى عسكريّة، والأخيرةُ كانت راجحة. بعد احتلالِ الثورةِ الفرنسيّةِ الجمعيّةَ العموميّةَ وسجنَ الباستيل سنةَ 1789 طرحَ تاليران، الديبلوماسيُّ الفرنسيُّ الشهير، على الكونت دارتوا D’Artois أن يَقترحَ على شقيقِه، الملكِ لويس السادسَ عشَر، استعمالَ القوّةِ لوقفِ الثورة. لكنَّ الملكَ، الذي لا يَثقُ بتاليران، رفضَ إراقةَ نُقطةِ دمٍ من الشعبِ الفرنسي وظنَّ أنّه سيكون مَلكَا دستوريًّا على الثورة. ما كان الملكُ يدري بعد أنَّ فرنسا اجتازت واقعَها الملكيَّ، وأَن المسألةَ مسألةُ وقتٍ قصيرٍ ليَتغيرَ وجهُ فرنسا بل هُويّتُها، وأنَّ فرنسا تولدُ من جديدٍ على أساسِ نظامٍ جديد. ولم يَكن الملكُ لويس السادسَ عشرَ يُدرك أنَّ التاريخَ أقوى من الـمَلَكيّةِ لأنّها عابرةٌ، والثورةَ أقوى من التاريخِ لأنّها جُزءٌ من مسارِه. والثورةَ غَفلَت أنَّ الطريقَ إلى حكمِ الشعبِ بالشعب، وأن بلوغَ الديمقراطيّةِ غالبًا ما يَمرُّ بالديكتاتوريّةِ والفوضى وسفكِ الدماء. والخطورةُ أيضًا هو أنَّ بعضَ الثوراتِ تَظلُّ في دوّامةِ الديكتاتوريّةِ دون إدراكِ الديمقراطيّة. بعدَ إعدامِ الملكِ، وَقفَ جان بيار بريسو Brissot على مِنبرِ الجمعيّةِ العموميّةِ الفرنسيّة، وهو عُضوٌ فيها، واعتبرَ أن الحربَ في فرنسا هي أفضلُ حلٍّ وطنيٍّ حاليًّا، وأنَّ أسوأَ شيءٍ ألّا نَخوضَها، فالتسوياتُ سَتُجْهضُ الثورةَ والتغييرَ في أوروبا، وحَصلت الحربُ خارجَ أهدافِ الثورةِ والقضاءِ على الـمَلكيّة. في فرنسا قاموا بثورةٍ للخروجِ من سطوةِ الـمَلكيّةِ والإكليروس، أما في لبنان فيُحاول البعضُ تغييرَ النظامِ للخروجِ من الديمقراطيِّة والمجتمعِ المدنيِّ إلى نظامٍ دينيٍّ أصوليٍّ لم يَعرِفْه لبنان حتى إِبَّانَ احتلالاتِ القرونِ الوسطى. يُقالُ عادةً إنَّ جيلًا يؤسِّسُ وجيلًا يَبني وجيلًا يُطوِّرُ وجيلًا يَستثمِرُ، ثم يأتي جيلٌ يَهدِم. كلمةُ أجيالٍ هنا لا تَنطبقُ على لبنان. فليست الأجيالُ مَن هَدَمت ما بُني، بل هي الأطرافُ السياسيّةُ والطائفيّةُ والمذهبيّةُ إلى أيِّ جيلٍ انتمَت.