العِلاجُ بالرياضةِ الروحيّة
لم تَعُد أسبابُ مشاكلِنا السياسيّةِ والوطنيّةِ سياسيّةً وعقائديّةً بامتياز. ولم يَعد تغييرُ السياسةِ يؤدّي حتمًا إلى حلِّ مشاكلِنا الداخليّةِ. يَكفي أن نَستعيدَ تغييراتِ الثلاثينَ سنةً الأخيرةَ لنتأكّدَ من ذلك. جُزءٌ كبيرٌ من الانحرافِ السياسيِّ في لبنان يعود إلى حالاتٍ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ وثقافيّةٍ وأخلاقيّةٍ تعاني منها الحياةُ السياسيّةُ اللبنانيّة عمومًا. فالسياسيّون هم بالأساسِ من هذا الشعبِ. مثلَه عانوا الحربَ والقصْف، الخوفَ والخطَر، التهجيرَ والفِراق، الضِيقةَ والهموم، الوِحدةَ والكآبة، الاحتلالَ والسجون. منهم مَن صمدَ وقاوم. ومنهم من آثَرَ العمالةَ والإذلالَ ويُناضِلون اليومَ لاستعادتِهما؛ فاحتلالٌ يعرِفونه خيرٌ من كرامةٍ لا يعرِفونَها. هكذا يَرجِعُ الواقعُ السياسيُّ إلى البيئةِ الاجتماعيّةِ الحاضِنة. فالمجتمعُ مسؤولٌ عن أخطاءِ الفردِ لا من ناحيةِ فقدانِ المحاسبةِ السياسيّةِ فقط، بل بِحكمِ التفاعلِ السلوكيِّ والتساوي في المستوى الحضاري. وفي هذا الجوِّ الكُلّيِ السوء لا يَستطيع أحدٌ أنْ يَدّعيَ المعصوميّةَ. وبالتالي إنَّ العلّةَ الأساسيّةَ هي البيئةُ السياسيّةُ بقدْرِ ما هي الطبقةُ السياسيّة. ما يُغرِّدُ به السياسيّون نَسمَع مثلَه في الشارع وأكثرَ منه على التواصلِ الاجتماعيّ... كم مرّةً سألنا أنفسَنا لماذا يَحتَجُّ الناسُ ثم يُعيدون إنتاجَ الطبقةِ السياسيّةِ ذاتِها، وما وجَدْنا جوابًا عن السؤالِ في السياسة؟ نَكتشفُ اليومَ أنَّ السببَ هو هذا التفاعلُ البيئَويُّ والنفسانيُّ والحضاريُّ بين المرشَّحين للانتخاباتِ والناخبين، وهو أقوى من القناعاتِ السياسيّةِ ومستقِلٌّ عنها. الناخبُ يُغطّي خِيارَه السابقَ بتجديدِه، ورجلُ السياسةِ يُكمِلُ خطأَه بالثقةِ الجديدةِ الحائزِ عليها. يتبادلُ الطرفان الإثمَ مع سابقِ معرفةٍ به، ويَمتنِعان عن الخروجِ من هذه الدوّامةِ الدائريّةِ لأنّهما يَنتميان إلى نفسِ الفَصيل، ولأنهّما يَخلطِان بين الفائدةِ بمفهومِها الوطنيِّ والمصلحةِ بمفهومِها الشخصيّ. المستوى المتدَنّي الذي بَلغَه العملُ السياسيُّ والسلوكُ الانفعاليُّ والتخاطُبُ بين سياسيّي المرحلةِ، تَستحيلُ معالجتُه بالدستورِ والقوانينِ والقضاءِ والمواثيقِ فقط. ونسبةُ الأحقادِ والتعصّبِ والشِقاقِ المتفشيّةُ في نفوسِ السياسيّين لا تَنفَع معها المصالحاتُ الصوريّةُ والتسوياتُ السطحيّةُ وهيئاتُ الحوارِ الوطنيّ واجتماعاتُ الأحزابِ ولا حتى الانتخاباتُ النيابيّة: جميعُها استُنزِفَت وفَشِلَت. عِلاجاتُ مشاكلِنا السياسيّةِ، متوفرِّةٌ في عِلمِ النفسِ وعلمِ الاجتماعِ والفلسفةِ والثقافةِ أكثرَ ممّا هي متاحةٌ في علمِ السياسة. الوضعُ يَستلزمُ مقاربةً خلّاقةً غيرَ سياسيّةٍ تأخُذ في الاعتبارِ الكسوفَ الحضاريَّ والخسوفَ الأدبيَّ والتحوّلاتِ النفسيّةَ في الطبقةِ السياسيّةِ اللبنانيّةِ وبيئتِها. أعضاءٌ من هذه الطبقةِ يَجهلون بما هُم عليه مع أنّهم يَتساءلون في قرارةِ أنفسِهم لماذا هم يَتصرّفون كذلك، وأعضاءٌ آخَرون يُدركون السببَ لكنَّ كبرياءَهم لا تَسمحُ لهم الاعترافَ به. والبقيةُ، وهي الأكثريّةُ، لا تَعرِفُ ولا تَتساءلُ ولا تُريد أن تَعرِفَ ولا تريدُ أن تَتوبَ؛ تَطبَّعت على السلوكِ السيِّئ وإلّا لما كنّا على ما نحن عليه. سنةَ 1976 صَدر في باريس كتابُ "هؤلاءِ المرضَى الّذين يَحكُمونَنا"، ويَتحدّثُ عن الأمراضِ الجسديّةِ التي كانت تُعيقُ عملَ كبارِ رؤساءِ العالمِ آنذاك وتُؤثّرُ على قراراتِهم وهذه السنةُ صَدر في أميركا كتابُ « Vices of the Mind » (عيوبُ المعرفة) وفيه يَعتبر قاسم قسّام، المفكِّرُ البريطانيُّ من أصلٍ كيني، أنَّ حربَ العراق وانتخابَ دونالد ترامب والـــ"بريكست" فصولٌ من عيوبِ الفكرِ النفسيّ. نحن في لبنانَ تجاه أمراضٍ سلوكيّة، لا جَسديّةٍ، تَفشَّت في العقلِ السياسيّ وعَطّلت كلَّ الحياةِ الوطنيّة. إن السياسيّين اللبنانيّين ـــ إلى أيِّ دينٍ انتمَوا ـــ مدعوّون إلى التفكيرِ جِدّيًا في هذا الموضوعِ بهدوءٍ ومسؤوليّةٍ وتواضُع، وإلى البدءِ بممارسةِ "الرياضةِ الروحيّةِ" بشكلٍّ جَماعيٍّ كما يَفعل الأساقفةُ والرهبانُ دوريًّا، وكبارُ رجالِ الدولِ في العالمِ المتحضِّر، وكما تَفعلُ مجالسُ إداراتِ الشركاتِ الكبرى في أوروبا واليابان وأميركا. ليس في الأمر عيبٌ، إنما العيبُ أنْ تَبْقوا كما أنتم وأنْ تُبْقوا الشعبَ كما هو. الإبراءُ من الآفاتِ السلوكيّةِ الصادمةِ الرأيَّ العامَّ، وقد تَكبَّدْنا إحدى فوراتِها الأسابيعَ الماضيّة، يبدأُ بعقدِ جلساتِ رياضةٍ روحيّةٍ فتَلتقي الجماعةُ السياسيةُ وتَتكلمُّ في كلِّ شيءٍ إلّا في السياسةِ. تَبحثُ عن الصفاءِ الفكريِّ والارتقاءِ الأخلاقيِّ والنقاوةِ الروحيّةِ، عن الحقيقةِ الصافيةِ والسلامِ الداخليِّ والذاتِ العميقةِ. تتأمّلُ لاحقًا في الأحداثِ وتَسعى إلى أن تُميّزَ بين الصحِّ والخطأِ، والأساسيِّ والعَرَضيّ، والثابتِ والـمُتحوِّل. وتَستمعُ الجماعةُ السياسيّةُ إلى اخِتصّاصيّين مُتجرِّدين من خارجِ البيئةِ السياسيّةِ يُلقُون عليهم محاضراتٍ عميقةً، فلسفيّةً ووِجدانيةً، عن الإنسانِ والمجتمعِ والحياةِ والتطوّرِ وحِسِّ الشأن العام وحُسنِ الحوكمةِ. ويَدور حوارٌ بين الجماعةِ المشاركِةِ حولَ مختلَفِ هذه القضايا السامية. تتجاوزُ الجماعةُ أَنانيّاتِها. تُحلِّقُ فوقَها فيتغيّرُ المشهَدُ: تَكبُر الأساسيّاتُ وتَصغُر التفاهات، ويَتجلّى الوطنُ بتاريِخه ومستقبلِه فيَخجَلُ الحاضر. في حلقاتِ الرياضةِ الروحيّةِ تَحتجِبُ السياسةُ وتَسطَعُ الوطنيّةُ. يَخبو الشخصُ المدنَّسُ ويتجلّى الإنسانُ الطيّبُ المحجوبُ خلفَ كلِّ رَجلِ سياسةٍ أو امرأةِ. تَغوص الجماعةُ في ضميرِها وتَستنبِطُ منه الأنْقى والأحْلى والأنْفع، وتَتلو صلاةَ الوطن. في هذه الحلقاتِ يُصبح المتعذِّرُ ممكِنًا. يَسهُلُ الاعترافُ بالخطإِ ويَجري التصحيح. يَهونُ الاعتذارُ والندَمُ ويَطفو الفكرُ الإيجابيُّ. تَقوى نَزعةُ التضامنِ وتُغورُ الفرديّةُ. تَنقشِعُ أبعادُ المسؤوليّةِ الوطنيّةِ ورَهْبتُها، ويَتيسَّرُ الاتفاقُ على القضايا المصيريّةِ. في جوِّ الانعتاقِ والتجرّدِ يُصبحُ من دونِ قيمةٍ كلُّ ما يُفرّقُ ويَمنعُ الاتّفاقَ على المسلِّماتِ الحياتيّةِ والوطنيّة. هكذا تَجدُ الجماعةُ السياسيّةُ ذاتَها في القيمِ وينشأُ بين أعضائِها رابطٌ لا يَفُكُّه سوى الموتِ. واثقٌ أن َّالسياسيّين اللبنانيّين لن يَخرُجوا من هذه الرياضاتِ الروحيّةِ مثلما دخلوها. ستكونُ الصَحوةُ التي تُغْني عن ثورة. تصحيحُ السياسةِ من خلالِ الرياضةِ الروحيّةِ ليس فكرةً طوباويّةً وساذِجةً. هي الطريقُ السلميُّ الوحيدُ الذي يُعيد إلى السياسةِ قيمتَها وإلى السياسيّين الاحترام، وهي المكانُ السِحريُّ الذي فيه يَقتربُ السياسيّون من الله ويَتصالحون مع الشعبِ فيُقومُ لبنان مِن بين الآفات.