معكَ كان الوطنُ أحلى
بِقدْرِ ما كنتَ، روبير غانم، مُحِقًّا في الانسحابِ من السياسة، كنت مُخطِئًا في الانسحابِ من الحياة. لم تَعُدِ السياسةُ تَليقُ بك، لكنَّكَ كنتَ تَليقُ بالحياة. في السياسةِ تركتَ بَصْمةً وفي الحياة خَلّدَت اسمًا. ولأن الإنسانَ سُمعةٌ، ما هَمَّك الموتُ، أنتَ في القلبِ تَلوذ. توقَّفَتِ المسيرةُ وبَقيَت السِيرة. وإذا كانت الحياةُ بدايةً، فالموتُ ليس نهاية. وأصلًا، نحن أمواتٌ برسمِ الحياة، وأحياءٌ برسمِ الأبديّة. النِّسيانُ ذاكرةُ العُمر، والعُمرُ سنواتٌ في لحظات. بغيابِك نَفتقِدُ تلك السنواتِ واللحظات. تجاهَ الموت، نحن مُتساوون وعاجزون. هو قَدَرٌ محتومٌ يَتأَبَّطُنا منذ الولادة، فنَمضي الحياةَ نؤخِّر الرحيلَ تارةً ونَتناساهُ طورًا. نَنتصر عليه افتراضيًّا. نَظنُّ الشبابَ وروحَ الشبابِ، الفرحَ والشِعرَ، الموسيقى والتأمّلَ، العملَ والسفرَ، لِقاحاتٍ تُقوّي المناعةَ ضِدَّ الموت. لكنْ، فجأةً يَشُقُّ الطمأنينةَ ويُطِلُّ كالغادِر المنتظَر، فتَسقُط كلَّ الـمُضادّات، ومعها تتجلّى عبثيّةُ الصراع. في لا وَعْيِكَ تَرانا وفي وَعْينا نُحِسُّ بك. تجاهَ روبير الذي نُحِبُّ نَفْقِدُ حاسّةً واحدةً: النَظَر. باقي الحواسّ تَزدادُ قوّةً حيالَه ونكادُ نَلمُسه حتى بالحَدْس. أَلا نستعيدُ حياةَ روبير بينَنا حين يَصدِمُنا موتُه؟ بينما كنتُ أُحدِّقُ في نعشِه الـمُسجَّى في الكنيسة، ما اعتقدتُ لحظةً أنّه في داخِله. كنتُ أراهُ في البَرلمان وساحةِ النَجمة، في بيروت وصغبين، في السهلِ والكروم، في روما وباريس مع ڤيڤيان. كنت أَلـمَحُهُ في البيتِ والمكتب، في الصُبحيّاتِ اللطيفةِ والأمسيّاتِ الهادئةِ والسهراتِ المرِحَة. كنت أسمعُ صوتَه خطيبًا ورأيَه سديدًا، وأتذكّر ابتسامتَه الرقيقة وغَمزتَه التي تُغْني عن تعليق. والّذين توافَدوا أيّامَ التعازي ما جاؤوا ليُعزّوا به بل لِيَبكوه. في كلِّ عينٍ دمعةٌ، وفي كلّ دمعةٍ محبةٌ، وفي كلِّ محبةٍ صدقٌ. هذا هو الانتصارُ على الموت. إذا كان الانتصارُ على حدثيةِ الموتِ مستحيلًا، فالانتصارُ على الغيابِ ممكنٌ. والحياةُ، بهذا البُعدِ، سرمديّةٌ وإن ماتَ صاحبُها. رَحلَ روبير غانم كما عاش: من دون أنْ يُزعجَ أحدًا. في حياتِه لم يُكلِّفْنا كلمةَ عَتبٍ، وفي غَفوتِه الأبديّةِ لم يطلبْ كوبَ ماء. هكذا اختال علينا الموتُ والنوم. كان روبير غانم مثالَ "القوّةِ الهادئة". بقوتِّه لا يَقهَرُ وبهدوئِه لا يَضعَف. المنطِقُ حُجّتُه والصبرُ زادُه. من دون أنْ يَرفعَ صوتَه كان الصوتَ الراجِح. الحقُّ همسةٌ. الباطلُ ضجيج. اعتمَد الحوارَ وسيلةَ تعاطٍ مع الآخرين، ففاز بثقةِ الرأيِ العامّ. فَضّل النقاشَ على السِجال، فحازَ على الاحترام. كان روبير يَشِعُّ نُبلًا ورقيًّا ويَفوح كِـبَرًا وشهامَة. كلُّ الكلماتِ الجميلةِ تلائمُ اخلاقَه. كان مقطوعةً موسيقيّةً في الحياةِ السياسيّةِ اللبنانيّة. تَميّز روبير بالعلمِ والكفاءةِ والحَذاقة، وعُرِف بفنِّ اختصارِ الفكرةِ والذَهابِ مباشرةً إلى الجوهر. كان يُدرك الممكنَ في الزمنِ الصعبِ، ويعالجُ ببرودةِ أعصابٍ المواضيعَ الساخِنة. أَصْلح بين المختلِفين وعَزّز العَلاقة بين المتحالِفين، فكان رسولَ خيرٍ ووفاقٍ في الحياةِ الوطنيّة. كان روبير غانم ديمقراطيًّا بالفِطرةِ والسلوك. ولأنه آمَن بالحرّيةِ، تَفرّغ للقانونِ وناضلَ من أجلِ دولةِ القانون. في زمنِه، كانت لجنةُ الإدارةِ والعدلِ أمَّ اللجان. ورغم أنّه دَخل السياسةَ في زمنِ الوصايةِ والاحتلال (التسعينات)، عَرَف أنْ يَميّزَ نفسَه عن تلك الطبقةِ السياسيّة، فشيّدَ عالـمَه البرلمانيَّ الخاصّ هاربًا من سياسة الخضوعِ والزبائنيّةِ إلى القانون والتشريع، فارتاح إليه جيلُنا المُخَضْرَم، وصار اسمُه في صدارةِ الأسماءِ الجديّةِ المطروحةِ لرئاسةِ الجمهوريّة طوالَ الثلاثينَ سنةً الماضية. وكاد أن يكونَ الرئيسَ سنةَ 2007. حافظ روبير غانم على الصِراطِ المستقيم. لم يَدَع واقعيّتَه السياسيّةَ تَـمَسُّ بمبادئِه الوطنيّة. بَحثَ دائمًا عن الوردةِ بين الأشواك ولو خَدَشَ أصابعَه. مؤمنًا بالله، جعل قيمَ الانجيلِ مصدرَ هَديٍ. احترمَ كرامةَ الانسان وقدسيّةَ العائلة. نَشَر ثقافةَ التضامنِ الاجتماعيِّ للحفاظِ على الطبقةِ الوسطى ولمحاربةِ الفُقر. وعَمَّم حضارةَ السلامِ والعدالة. فَهِمَ السياسةَ فعلَ سموٍّ بالإنسانِ والمجتمع، فنأى بنفسِه عن الصغائرِ والتملّقِ والاستعطاف، وبَلغ حدَّ أن قال للسياسة: "كفى. ما هكذا تكون الانتخاباتُ والتحالفاتُ والِخياراتُ والتسوياتُ والوطنيّةُ والديمقراطيّة. لكم سياستُكم ولي وطنيّتي. دَخل روبير غانم السياسةَ مُنتخَبًا وخَرَج نُخبويًّا. يا صديقي روبير: معك كانت الحياة السياسيةُ أحلى. كنتَ حرًّا في الحياة، وتَحرّرتَ من السياسةِ، وها إنك اليومَ تَتحرّرُ من الجسد. فإلى مجلسِ الله.