نعم للحلول لا للمقايضة
حين تكون المعارضةُ واسعةً وأكثريّةً، ومطالبُها وطنيّةً وإصلاحيّةً، خطيئةٌ أن يبقى رئيسُ البلادِ في منصبِه لحظةً واحدة. هذا ما فَعله الرئيس بشارة الخوري سنة 1952 فاستقال تحت ضغطِ الشارعِ الوطنيِّ وخَلَـفَه كميل شمعون فورًا (يا زمانَ المسؤوليّة). وحين تكون المعارضةُ فئويّةً وأقليّةً ومطالبُها تَمُسُّ بالكيانِ اللبنانيِّ، خيانةٌ أن يستقيلَ رئيسُ البلادِ، فالواجبُ الوطنيُّ يُحتِّمُ عليه البقاءَ في منصبِه والمواجهةِ. هذا ما فَعله الرئيس كميل شمعون سنةَ 1958 فصَمدَ في رئاسةِ الجمهوريّةِ حتى آخَرِ دقيقةٍ من ولايتِه حِرصًا على استقلالِ لبنان وسيادتِه وخَلَـفَه فؤاد شهاب فورًا (يا زمانَ العزِّ). وحين تكون أكثريةُ الثُلثين في المجلسِ النيابيِّ مضمونةً ليَتمَّ التجديدُ لرئيسِ الجمهوريّةِ، زَلّــةٌ أن يَقبلَ التجديدَ من أجلِ التجديدِ فقط. هذا ما فَعله الرئيسُ فؤاد شهاب سنةَ 1964 حين اعتذر عن تجديدِ ولايتِه وأعلنَ أنَّ الإصلاحَ متعذِّرٌ من ضمنِ النظام وخَلَـفَه شارل حلو فورًا (يا زمانَ الرِفْعة). لكن ما عساه يَفعل رئيسُ البلادِ حين تكون المعارضةُ ثورةً والثورةُ شاملةً ومطالبُها مُنقذة؟ أيَصمدُ ضِدَّ الشعبِ أم يستقيلُ ويُنقذُه؟ فرصتُه الوحيدةُ أن يَستقيلَ عند قاضي العَجَلة. في واقعِ لبنان الحالي، حيث صارت السلطةُ التنفيذيةُ مناطةً بمجلسِ الوزراء، الأَوْلى بالحكومةِ أن تستقيلَ (وقد استقالت). غير أنَّ الشعبَ لا يُحاكِـمُ اليومَ حكومةً لا اعتبارَ لها ولا احترامَ ولا وجودَ، بل منظومةً حاكمةً (تنفيذيّةً وتشريعيّةً وسياسيّةً وأمنيّةً وإداريّةً وماليّةً) اقترفَت في ثلاثِ سنواتٍ ما يُضاهي السنواتِ الثلاثينَ الماضية. وأقلُّ آثامِها هو الفساد. فتسليمُ الدولةِ إلى الدويلة، وإبدالُ الدستورِ اللبنانيِّ بمرجِعيّةِ السلاح، والتضحيةُ بسيادةِ لبنان وأمنِه القوميّ والانقلابُ على الثوابتِ التاريخيّةِ، تَفوق جرائمَ الفساد. هذه المنظومةُ أفْــقَرت الناس. أذلّت الإنسان. أغلَقت أبوابَ الرِزق. شرَّدت العائلات. هَجَّرت الشباب. زادَت البَطالة. أجْهضَت الأحلام. قَوَّضت الاقتصاد. خَرّبت النظامَ الـمَصَرفي. حَظّرَت الكهرباء. غيّرَت التاريخ. عَلّقت الدستور. عَبثَت بالصيغة. حَوَّرت النظام. نَقضَت الوعود. أنكرَت العرب. جافَت الغرب. عَزلَت لبنان. أوْهمَت السُذَّجْ. استباحَت المحرَّمات. سَخّفَت المقامات. كَـمَّت الأفواه. عَبثَت بالقضاء. هَوَّلت على الجيش. سَوَّقَت سلاحَ حزب الله. أثارت الأحقاد. خاصَمت الحضارة. زفَّت الشؤمَ والنَحْس. حمَلت الموتَ إلى شعبِها والأحزان. جَعلت لبنانَ محجورًا كالأبْرَص. غالِبيّةُ الشعبِ مع الثورةِ والتغيير، لكنَّ كلَّ الشعبِ ضِدَّ الفراغِ والفوضى. الشعبُ (الثوّارُ ضُمنًا) مُـتّـفقٌ على ما لا يريد ومختلِفٌ على ما يريد. لا يريد هذه السلطةَ برئيسِ الجمهوريّةِ والحكومةِ والمجلسِ النيابيّ والكوادرِ الحاكمة. بَيْدَ أنَّه لا يُدركُ كيفيّةَ التغيير، ولا دِقّةَ التوازناتِ التاريخيّةِ والطوائفيّة، ولا مسارَ انبثاقِ السلطةِ الجديدة، ولا شكلهَا الدستوريَّ. لذلك، هل يُستَحْسنُ بالمعارضةِ ـــ الثورةِ والأحزاب ـــ أن تُطيحَ المؤسّساتِ الدستوريّةَ التنفيذيّةَ والتشريعيّةَ دُفعةً واحدة؟ وهل تَضْمَنُ القدرةَ على ذلك من دون تفجيرِ الوضعِ الأمنيِّ؟ وهل هي وحدَها في البلد؟ ومن أين تَنبثِقُ السلطةُ الجديدةُ في غيابِ المؤسَساتِ الدستوريّةِ التي منها تَنبثق السلطة؟ مَن يَضع قانونَ انتخاباتٍ جديدًا؟ مَن يُجري الانتخاباتِ ويُشرِف عليها؟ مَن يؤلّفُ الحكومة؟ ومن يَنتخِبُ رئيسَ الجُمهورية؟ في المنهَجِ الدستوريِّ الطبيعيِّ تَسير الأمورُ كالتالي: إذا كنّا نريد انتخاباتٍ نيابيّةً جديدةً يُفترضُ وجودُ حكومةٍ تُنظّمُها ورئيسِ جمهوريّةٍ يَمحضُها الشرعيّة. وإذا كنا نريدُ إسقاطَ رئيسِ الجمهورية يُفترضُ وجودُ حكومةٍ تَحفَظُ الشرعيّةَ الدستوريّةَ ومجلسٍ نيابيٍّ يَنتخِبُ رئيسًا آخر. وإذا كنا نريد حكومةً جديدة، يُفترض بقاءُ رئيسِ الجمُهوريّةِ ليُجريَ الاستشاراتِ ويُوقِّعَ على التأليفِ والمجلسِ النيابيِّ ليُسمّيَ رئيسَ الحكومةِ الجديدة. إن بقاءَ أو استقالةَ رئيسِ الجمهوريّةِ "ورقةٌ" دستوريّةٌ وسياسيّةٌ لا تُبدَّدُ رخيصًا ومجّانًا. يجدرُ أن نَربُطَ بقاءَه بتغييرِ سياستِه جذريًّا، واستقالتَه بالاتفاقِ على الرئيسِ الجديدِ سلفًا وانتخابِه، وعلى نوعيّةِ الإصلاحاتِ الدستوريّةِ (كاللامركزيّةِ الموسَّعة والحِيادِ وفصلِ السلطات). في المراحلِ المصيريّةِ تَنتحي الشعبويّةُ أمامَ العقلِ والوِجدان. فمهما ارتَفعت أصواتٌ من هنا وهناك، لن نقبلَ، نحن مؤسِّسي الكيانِ، أيَّ تغييرٍ يُناقِض التضحيّاتِ التي قدّمناها في سبيلِ لبنانَ حرٍّ ومميَّز، ونَحتفِظُ بكلِّ الخِيارات الوطنيّةِ مهما كانت الأثمان. كلُّ الحَراكِ اللبنانيِّ المعارِض مجهولُ التأثير لأنَّ مصيرَ التغييرِ السياسيِّ في لبنان جَنحَ نحو الدولِ الأجنبيّةِ وصار رهنَ الصراعِ أو التسويةِ (قيد البحث) بين أميركا وفرنسا من جِهةٍ، وإيران من جهةٍ أخرى. الأطرافُ اللبنانيّةُ صديقةُ الثنائيِّ الأميركيّ/الأوروبيّ تستطيعُ خلقَ ديناميّةِ استقالاتٍ لكنّها تَعجَز عن ابتداعِ السلطةِ البديلةِ في رئاسةِ الجمهوريّة أو الحكومةِ أو المجلسِ النيابيِّ من دون "مشاركةِ" حزبِ الله حليف إيران. تغييرُ هذا الواقع (أو الأمرِ الواقع) يَتعلّق بمدى استعدادِ أميركا وفرنسا وحلفائهما على انتهاجِ سياسةٍ تعالجُ دورَ حزبِ الله المعطِّل أو تجذُبه إلى كنَفِ الدولة من دون سلاحِه ومن دون مقايضةٍ على حسابِ المكوّناتِ الأخرى (مؤتمرٌ تأسيسيٌّ أو مثالثةٌ أو تمييزٌ بين أنواعِ السلاح). لبنانُ في خِضمِّ هذا التجاذبِ السلميِّ والأمنيِّ الجاري بين الغرب وإيران. لذلك إنَّ المطالبةَ بحكومةٍ جديدةٍ وبانتخاباتٍ نيابيّةٍ جديدةٍ وبرئيسِ جُمهوريّةٍ جديد، وهي مُطالبةُ مشروعةٌ، تَفترض أن تأخذَ بالاعتبارِ العَلاقةَ السببيّةَ بين تغييرِ القائمِ السيِّئِ وإيجادِ البديلِ الأفضل. وربما لصعوبةِ الأمرِ تَتروّى الأحزابُ والكتلُ الكبيرة ُفي الانجرارِ وراءَ بِدعةِ الاستقالات. تَرتكب القياداتُ السياديّةُ خطأً تاريخيًّا إذا وظّفت الزلزالَ الاقتصاديَّ والكارثةَ الإنسانيّة ودمارَ العاصمةِ ودماءَ الشهداءِ والمصابين في تأليفِ حكومةِ تسويةٍ جديدة، ويَرتكب الرئيسُ إيمانويل ماكرون خطيئةً بحقِّ "لبنان الكبير" إذا وَظّف "الحمّامَ الشعبيَّ" في بيروت في تسويةٍ على طريقةِ "تسوية الدوحة"، لكنَّ عاطفتَه الصادقةَ التي سالت كالدمعِ تجاه لبنان تَرفعُ نسبةَ الثقةِ به. واجبُ القياداتِ اللبنانيّةِ أن تناضلَ إلى جانبِ البطريركِ المارونيِّ ـــ المؤتَمنِ على مشروعِ لبنان ـــ لتحويلِ الدعمِ العربيِّ والدوليِّ الإنسانيِّ دعمًا سياسيًّا، ولتثميرِ الدعمِ السياسيِّ في مشروعِ تغييرٍ حقيقيٍّ في بُنيةِ الدولةِ المركزيّة. معيارُ التغييرِ ليس الحكومةَ الجديدةَ برئيسِها وشكلِها وعددِها، بل بِخيارِها الوطنيِّ ونهجِها السياسيِّ وطرحِها الإصلاحيّ. على أساسِ هذه المبادئِ تَتقرّر المشاركةُ في الحكومةِ أو العزوف. لا نريد حكومةً جامعةَ الأحزابِ ومتفرِّقةَ الخِيارات. هذا زمنُ القراراتِ الكبرى والجريئة، وزمن القبول والرفض (سنَنتصر).