دورُ فرنسا الـمُــنــتــظَر
مبادرةُ فرنسا بشأنِ تأليفِ الحكومةِ اللبنانيّةِ هي جُزءٌ من دورٍ فرنسيٍّ استراتيجيٍّ أوْسعَ يَهدُف إلى حمايةِ لبنان في المرحلةِ المقبِلة وتحييدِه عن صراعاتِ الشرق الأوسط: إسرائيل تَضغَطُ عبرَ الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّةِ لرفعِ مستوى التفاوضِ حولَ الحدودِ ومُربَّعاتِ النَّفِط إلى مستوى ديبلوماسيٍّ توطئةً لعقدِ اتفاقِ سلامٍ ثنائيّ. وإيران تحاول عبرَ حزبِ الله إبقاءَ لبنان جَبهةً عسكريّةً وتَغييرَ نظامِه وهويّتِه. والمجتمعُ الدوليُّ يسعى عبر منظّماتِه إلى توطينِ اللاجئين الفِلسطينيّين ودمجِ قِسمٍ من النازحين السوريّين فيه. التطوّراتُ المقبلةُ خطيرةٌ، بما فيها التطوّراتُ السلميّة. حِدَّةُ الصراعِ في الشرقِ الأوسطِ الكبير يَتقدّمُ رغمَ إطلاقِ التسوياتِ في سوريا واليمن وليبيا وتوقيعِ معاهداتِ السلامِ الخليجيّة/الإسرائيليّة. والّذين يُعرقلون مبادرةَ فرنسا "الحكوميّةَ"، إنما يُعرقلون دورَها. القضيّةُ أبعدُ من حكومة. والعجبُ أن "الصاروخَ" الذي أُطلِقَ على المبادرةِ الفرنسيّةِ مُثلَّثُ الرؤوس: إيرانيٍّ، أميركيٍّ وإسرائيلي. إيران تولّت وضعَ الشروطِ على الفرنسيّ، أميركا وضَعت العقوباتِ على الإيراني، وإسرائيل رفَضت آخِرَ نُسخةِ ترسيمِ الحدودِ مع لبنان. في لبنانَ والشرقِ الأوسط، تحالُفُ الأعداءِ أقوى من تحالفِ الأصدقاء، والمصالحُ المرحليّةُ أثْبَتُ من التحالفاتِ البعيدةِ المدى. والاستراتيجيّةُ الأكثرُ شيوعًا هي "التواطؤ"، والمكانُ الأنسبُ لإبرامِها هو "تحتَ الطاولة". هذه ظاهرةٌ بَرزت منذ ملابساتِ نشوءِ دولةِ إسرائيل سنةَ 1948، وظروفِ سقوطِ الجولان سنةَ 1967، وتَـجّلَت في حروبِ لبنان منذ سنةِ 1975 وفي مناسبات أخرى أبرزُها حاليًّا: إشكاليّةُ مزارعِ شبعا التي تُشكِّلُ نُقطةَ تلاقٍ إسرائيليٍّ/سوريٍّ/إيرانيّ. عادت فرنسا إلى بيروت لمنعِ تفجيرِ لبنان بعدَ تفجيرِ المرفأ، فتَضمَنُ حدودَه واستقلالَه وحِيادَه واستقرارَه في وقتٍ يُشكِّلُ لبنانُ نُقطةَ التقاءِ نزاعاتِ أكثرَ من طرفٍ عربيٍّ وإقليميٍّ ودوليّ. وإذا كانت فرنسا ارتَكبَت هَفواتٍ في مبادرتِـها الحكوميّة، فأبعادُ دورِها الأوسعِ في لبنان هي التالية:
- الحؤولُ دون التمدّدِ التركي فيه لأن النظامَ العُثمانيَّ الجديد يسعى إلى خلقِ واقعٍ في شمالي لبنان يَسمحُ له بالتدخل عسكريًّا على غرارِ ما فعل في العراق فسوريا فليبيا. والّذين يَستبعِدون ذلك أسألُهم ما إذا تَوقّعوا في منامِهم سنةَ 2011 أنْ تَحتلَّ تركيا أجزاءَ من العراق وسوريا وليبيا. وفي هذه الحالِ يُخشى أن يَتحوّلَ الصراعُ الثنائيُّ في لبنان بين إيران والسعوديّةِ صراعًا ثلاثيًّا فتُضافُ تركيا إليه.
- استباقُ انفجارِ الوضعِ في جَنوبِ لبنان لأنَّ التوقعاتِ غيرُ مطمْئِنة. فإسرائيل تَرغَب باستدراجِ لبنان نحو سلامٍ يُبرّرُ انخراطَ سوريا فيه أيضًا، وإيران تَعتبر جَنوبَ لبنان الـمُربّعَ الأخيرَ الباقي لها ــــ حتى الآن ــــ في المِنطقةِ بعد التضييقِ عليها في سوريا والعراق.
- تنظيمُ مِنصّاتٍ دوليّةٍ لمساعدةِ لبنان ماليًّا واقتصاديًّا، والإشرافُ على وصولِ الأموالِ وتوزيعُها والمشاركةُ في مشاريعِ النهوض، وأبرزُها الطاقةُ والكهرباءُ والاتّصالاتُ والمواصلات. وتُخطِّطُ فرنسا لأن يَنضمَّ لبنانُ لاحِقًا إلى "منظمّةِ شرقِ المتوسّط" النَّفطيّة.
- رعايةُ مؤتمرِ حوارٍ وطنيٍّ يؤدّي إلى تطويرِ النظامِ السياسيِّ، والحثُّ على وضعِ استراتيجيّةٍ عسكريّةٍ تُعالج وجودَ سلاحِ حزبِ الله. غير أنَّ فرنسا لا تَملِك بَعدُ تصوّرًا واضحًا للنظامِ الجديدِ، ولا لكيفيّةِ حلِّ مُعضِلةِ سلاحِ حزبِ الله، ما يَجعلُها بحاجةٍ إلى مساعدةِ أكثر مِن "صديق". لذلك يُستبعَدُ أن تُعطى فرنسا وكالةً حصريّةً برعايةِ لبنان كما كَلّفتْها "عُصبةُ الأممِ" سنةَ 1922 بالانتداب، لاسيّما أنَّ واشنطن سَبقت باريس إلى تسليحِ الجيشِ اللبنانيّ الـمُقبلِ قريبًا على تحمّلِ مسؤوليّةِ حمايةِ الشعب من أعمالٍ متهوِّرة.
دَخل ماكرون إلى لبنان من دونِ سِترةٍ واقيةٍ من "الصواريخ المضادة"، ومن دونِ خِبرةٍ كافيةٍ. اتّكَل على تطميناتٍ أميركيّةٍ وعربيّة. راهن على حُسنِ نيّةِ مختلِفِ المكوّناتِ اللبنانيّة التي يَعتبرُها صديقةَ فرنسا، وأحْدَثُها حزبُ الله. افتَرضَ أنَّ هذه المكوِّناتِ صارت ـــ على الأقلِّ بعد تفجيرِ المرفأ ـــ تَتمتّعُ بحسٍّ معيّنٍ من المسؤوليّةِ يَجعلُها تَتخطّى المحاصصةَ إلى إنقاذِ الوطن. لكنَّ الرئيسَ الفرنسي تناسى، أو فَضّلَ أن يَتناسى، أنَّ مُمثّلي بعضِ المكوّناتِ اللبنانيّةِ هم ودائعُ دولٍ أجنبيّةٍ ويَحملون مشاريعَ تتعارضُ والـخُطّةَ الفرنسيّة. وظنَّ أيضًا أنّه يَستطيعُ أن يَسترسِلَ في مَودّةِ حزبِ الله بمنأى عن الإدارةِ الأميركيّةِ المنهَمِكةِ في انتخاباتِ ترامب. اصطدَم الرئيسُ الفرنسيُّ بسوءِ نصائحِ بعضِ مستشاريه، برداءةِ الطبقةِ السياسيّةِ اللبنانيّة، برقابةٍ أميركيّةٍ صارمَةٍ، بعَتبٍ عربيٍّ واضح، وبخيبةٍ لبنانيّة. رغمَ تجاهلِ فرنسا موضوعَي اللاجئين الفِلسطينيّين والنازحين السوريّين، تقضي مصلحةُ لبنان دعمَ تحرّكِ الرئيس ماكرون لأنّه "ديغوليٌّ" في نظرتِه إلى دورِ فرنسا في العالم. أَدركَ أنَّ دولةً صغيرةً مثلَ لبنان، متعدِّدةَ التكوين وغارقةً في الانقساماتِ تحتاجُ إلى إحاطةٍ خاصّةٍ لتجتازَ هذه المرحلةَ الصاخِبةَ والمضْطَربة ولتُقِرَّ نظامَ الحِياد الذي يُعيد استقلالَ لبنان. ولمَ لا؟ النظامُ السوريُّ استَنجدَ بروسيا، ودولٌ خليجيّةٌ وقَّعت اتفاقاتِ سلامٍ مع إسرائيل، وقطَر ارتفَعت إلى مرتبةٍ حليفٍ رئيسيٍّ لواشنطن من خارجِ حلفِ شمالِ الأطلسي. لم تُوقِّعْ دولُ الخليجِ اتّفاقاتِ السلامِ لإنهاءِ الصراعِ العربيِّ/الإسرائيليِّ، بل بحثًا عن حليفٍ ثابتٍ يَقيها الخطرَ الإيرانيَّ بعدَ الانسحابِ العسكريِّ الأميركيِّ غيرِ الـمُنظَّمِ وغيرِ الـمُنسَّقِ معها. بتعبير آخَر، باتت إسرائيلُ بديلَ أميركا في ضمانِ أمنِ الخليج. قبلَ توقيعِ السلامِ مع العرب، كان هدفُ إسرائيل إقامةَ حلفٍ استراتيجيٍّ مع تركيا وإيران لتطويقِ العرب. لكن، مع الثورةِ الخمينيّةِ خرجت إيرانُ من الحِلف، ومع الإخوانِ المسلمين خَرجت تركيا. وأصبحَ حلفُ إسرائيلَ اليوم مع العربِ يُطوِّقُ إيران وتركيا. نحن أمام تحوّلاتٍ استراتيجيّةٍ تستلزمُ حكمةً لبنانيّةً وشجاعةً ورعايةً دوليّةً مُوقّتة تقودُها فرنسا وأميركا ودولٌ عربيّةُ مخلصةٌ. وإذا كان البعضُ يفضِّلُ أن يكونَ لبنانُ آخِرَ دولةٍ تُوقّعُ السلامَ مع إسرائيل، فلا يجوزُ أن يكونَ الدولةَ الوحيدةَ التي تُقاتل إسرائيل. (سنَنتصر)