التوقيعُ الثالثُ سلطةٌ أولى
لا أظنُّ أنَّ المرجِعياتِ الشيعيّةَ تُحبّذُ تقليدَ ملكِ اليهود سليمان الحكيم (990 ـــ 931 ق.م). الأسطورةُ تَروي أنَّه كان يَملِكُ خَتْمًا يُوقِّعُ به فيهرُبُ الجِنُّ والفاسدون والأرواحُ الشريرة، ولكثرةِ ما أساءَ استعمالَ خَتمِه للإثراءِ غيرِ المشروع، عاقَب "يَهوَه" بني إسرائيل بتقسيمِ مملكتِهم. لئلّا نُعاقَبَ فنُقسَّمَ، إصرارُ المرجِعيّاتِ الدينيّةِ والحزبيّةِ الشيعيّةِ على الحصولِ على وزارةِ الماليّةِ لن يَطرُدَ الجِنَّ، بل يُخفي وراءَه أسبابًا وغاياتٍ لا علاقةَ لها بالدستورِ والميثاقِ ولا حتّى بالتوازنِ الطوائفي. دورُ الطائفةِ الشيعيّة، وأيِّ طائفةٍ أُخرى، لا يَتعزّزُ بالتوقيعِ الثالثِ الإلزاميّ. التواقيعُ الأخرى (رئيسا الجمهوريّةِ والحكومةِ والوزيرُ أو الوزراءُ المعنيّون) على القراراتِ والمراسيمِ والمشاريعِ والقوانينِ لا علاقةَ لها بالميثاقيّةِ والتوازنِ الطائفي، بل تُمارَسُ لانتظامِ دورةِ المسؤوليّاتِ ـــ لا الصلاحيّاتِ ـــ في مؤسّساتِ النظامِ الديمقراطيّ. أما التوقيعُ الثالثُ الإلزاميُّ الذي تَسعى مرجعيّاتُ الطائفةِ الشيعيّةِ إلى انتزاعِه، فهو توقيعٌ باسمِ صلاحيّاتٍ مزعومةٍ خارجَ الآليّةِ الديمقراطية. هذا توقيعٌ يَقضي على فصلِ السلُطاتِ، إذ تُصبح وزارةٌ (الماليّة) أقوى من جميعِ الوزاراتِ ومن السلطاتِ الدستوريّةِ الأعلى منها، فتُراقبُها وتَرهَنُها وتَتحكَّمُ فيها. ولا تعودُ الماليّةُ، بالتالي، وزارةً، بل تصبحُ سلطةً بمستوى السلطتين التنفيذيّةِ والتشريعيّة. "حقوقُ" الطائفةِ الشيعيّةِ الدستوريّةِ والميثاقيّةِ مَصونةٌ ومُصانةٌ من خلالِ دورِها ومواقعِها، وفي طليعتِها رئاسةُ المجلسِ النيابيِّ ومدّةُ ولايةِ رئيسِه. المجلسُ النيابيُّ، وهو مصدرُ التشريعِ والتوقيع، يَتمتّعُ بسلطاتٍ واسعةٍ وقابلةِ الاجتهادِ والتفسيرِ حدَّ تجاوزِ سلطاتٍ دستوريّةٍ أخرى بما فيها المجلسُ الدُستوريّ. وقد أثْبتَ رئيسُه أنّه قادرٌ على إطلاقِ عجلةِ الحكمِ أو تعطيلِها. يَحسِمُ جدولَ أعمالِ الجلساتِ، يُمسِكُ بمصيرِ مشاريعِ القوانين، يُعدِّلُ القوانين، يُفسِّرُ الدستورَ والموادَّ القانونيّة، يَضعُ قانونَ الانتخاب، يُحدِّدُ نوعيَّةَ الأكثريّة، يُغلِقُ أبوابَ المجلسِ ويَفتحُها، يختارُ الردَّ أو عدمَه على رئيسَي الجمُهوريّةِ والحكومة، يشاركُ في إعلانِ الحكومات. وعدا المجلسِ النيابيِّ، أبناءُ الطائفةِ الشيعيّةِ يَتبوَّأُونَ، مركزيًّا ومناطقيًّا، مراكزَ هامّةً دستوريّةً، سياسيّةً، قضائيّةً، ديبلوماسيّةً، عسكريّةً، أمنيّةً، رقابيّةً، وإداريّةً... والحكوماتُ المتعاقِبةُ خَصّصَت ميزانيّاتٍ طائلةً للمناطقِ التي يَنتشرُ فيها الشيعةُ الأحبّةُ، لاسيّما في البقاعِ والجَنوب. وإذا لم يَرَ أبناءُ تلك المناطقِ المشاريعَ الإنمائيّةَ الكافيةَ، فأجْدرُ بهم أن يَسألوا مرجِعيّاتِهم عن الأمرِ، لا أن يقوموا على الدولةِ والصيغةِ والنظامِ، ويَشْتهوا ما للطوائفِ الأُخرى. تستندُ المرجعيّاتُ في المجتمعِ الشيعيِّ إلى ذريعتَين أساسّيتَين: العددِ والسلاحِ، لتطالبَ بمكاسبَ وصلاحيّاتٍ تُخلِفُها مع باقي المكوّنات اللبنانيّة. ليس العددُ معيارَ بناءِ الأوطان التعدّديةِ والشراكةِ الوطنيّةِ لأنّه مفهومٌ متحرِّكٌ ومتغيِّــرٌ في الليالي الحوامل. وبالتالي، لا يُبنى على الواقعِ المتحرِّكِ نظامٌ ثابت. ولو فكّرنا، نحن المسيحيّين، بعنصرِ العددِ، لما اخْترنا لبنانَ الكبير، والخِياراتُ سخيّةٌ. لقد راهَنّا على عددِ الحضاريّين لا على عددِ الرؤوس، وعلى الشراكةِ المبنيّةِ على عددِ المكوّناتِ لا على أعدادِ كلِّ مكوّن، وعلى عددِ الإبداعاتِ لا على عددِ الولاداتِ الـمُبرْمَجة، راهنّا على حسن كامل الصباح وأمثالِه. أمّا السلاحُ، فليس مِعيارَ القوّةِ في العَلاقةِ بين شركاءِ الوطن، على الأقلِّ بالنسبة إلينا. نحن نرفضُ الاحتكامَ إلى السلاحِ إلا إذا تقاعسَت الدولةُ واضْطُرِرنا مرّةً جديدةً إلى الدفاعِ عن أنفسِنا، فلنا الحَوْلُ ولنا القوّة. لا يستطيعُ الثنائيُّ الشيعيُّ أنْ يَطلُبَ بسلاحٍ غيرِ شرعيٍّ مواقعَ في الشرعية، ولا بسلاحٍ مُوَقّتٍ مكاسبَ دائمة. وأصلًا، ليس أحبّاؤنا الشيعةُ بحاجةٍ إلى هيمنةِ السلاحِ وكثافةِ العددِ للمطالبةِ بأمرٍ، فهُم مكوّنٌّ لبنانيٌّ وطنيٌّ ويَحِقُّ لهم أن يَطرحوا ما يريدون في هيئةِ حوارٍ مسؤولٍ تحت سقفِ الدستور وصولًا إلى تطويرِ النظام. وإذا كانت المرجِعيّاتُ الشيعيّةُ تَرفُضُ الواقعَ الدستوريَّ الحاليَّ، فلأنَّ طموحاتِها تَتعدّى النظامَ اللبنانَّي بمفهومِه الديمقراطيِّ والصيغويِّ والتعدّدي. وما مطالبتُها بحقيبةِ وزارةِ المال لتَحصُلَ على "التوقيعِ الثالث" سوى تعبيرٍ عن اصطدامِ المشروعِ الشيعيِّ بذلك. يَطمحُ الثنائيُّ الشيعيُّ من خلالِ وزارةِ المال إلى:
- السيطرةِ أوّلًا على الطائفةِ الشيعيّةِ لكي تَبقى تحت قَبضتِه شعبيًّا وخَدَماتيًّا وانتخابيًّا، فيحتَفِظُ بتفوّقِه، بعدَ انتفاءِ سلطةِ السلاحِ، في المناطقِ الشيعيّةِ، لاسيّما وقَد أَظهَرت "الثورةُ" وجودَ قوى شيعيّةٍ نائمةٍ ومستقلَّةٍ قادرةٍ على تثبيتِ وجودِها بموازاةِ الثنائيِّ.
- التَحكّمِ بكلِّ مفاصلِ الدولةِ وبمطالبِ سائرِ الوزاراتِ والمكوِّناتِ الطائفيّةِ والمذهبيّةِ والسياسيّة، فلا يُصبحُ أيُّ قرارٍ للآخرين نافِذًا من دون توقيعِ وزيرِ الماليّةِ الشيعيّ.
- الإشرافِ على ماليّةِ الدولةِ من ألِفِها إلى يائِها، والسيطرةِ على مداخيلِها ومصاريفِها، فوزارةُ المال هي وزارةُ الجمارك والمعابِر والضرائبِ والميزانيّةِ وجِبايةِ كلِّ مواردِ الدولةِ بمؤسّساتِها العامّةِ والخاصّةِ والمعنيّةِ بضبطِ المداخيلِ ومنعِ الهدر.
- انتزاعِ بقوّةٍ غيرِ دستوريّةٍ مكاسبَ دستوريّةٍ من دونِ تعديلٍ دُستوريٍّ. فيَجلِسُ الثنائيُّ الشيعيُّ إلى طاولةِ الحوارِ المقبِلةِ من موقِعٍ متقدِّمٍ على الأطرافِ الأخرى.
- استباقِ بَدءِ تطبيقِ اللامركزيّةِ التي تَنقُل صلاحيّاتٍ معيَّنةً من السلطةِ المركزيّةِ إلى السلطاتِ المناطقيّة، فاحتكارُ الثنائيِّ الشيعيِّ وزارةَ الماليّةِ يُسقطُ مفعولَ اللامركزيّة، إذ يُمسِكُ في آن معًا بالقراراتِ الماليّةِ المركزيّةِ وبالقراراتِ الماليّةِ اللامركزيّةِ التابعةِ للمكوّناتِ الوطنيّةِ والطائفيّةِ الأخرى. بمعنى آخَر، الشيعةُ يُشاركون المكوّناتِ الأخرى في إدارةِ مناطقهِم.
لكلِّ هذه الأسبابِ وَجد الثنائيُّ الشيعيُّ نفسَه في مواجهةِ سائرِ المكونات، بمن فيهم "المكوِّنُ الفرنسيُّ"، إذ تبيّنَ أنَّ عِنادَه على وزارةِ المال من شأنِه أن يُخضِّعَ جميعَ المكونات له. إنَّ تجلّيَ المشاركةِ الكاملةِ في الحياةِ الوطنيّةِ ليست بالإمضاءِ بل بالولاء، ولا بالهيمنةِ بل بالمساواة. فرجاءً، رجاءً، رجاءً، لا يَلْعَبَنَّ أحدٌ بهُويّةِ لبنان وتركيبتِه ووِحدتِه الجاثمةِ على شفيرِ الهاوية. ولا يَطرَحَنَّ قضايا هي بمثابةِ مشروعِ حربٍ تبدأ أهليّةً وتنتهي دوليّة. العبثُ بالشراكةِ الثنائيّةِ المسيحيّةِ/الإسلاميّةِ هو عبثٌ بوِحدةِ لبنان، وهو حَرْفُ لبنان نحو نظامِ الكانتونات الذي ما زلنا، حتّى إشعارٍ آخَر، نُشيحُ الطرْفَ عنه.