جبران خليل جبران - ديمومةُ قيمِه الروحيّة
تزامنَت ولادةُ جبران سنةَ 1883 مع رحيلِ الموسيقار "ريتشارد فاغنر" والفيلسوف "كارل ماركس". إنَّـه تداولُ النبوغِ عبرَ العصور. لكنَّ سيمفونـيّاتِ الأوّلِ تَـقمَّصت في غنائـيّـة جبران، وثورةَ الثاني وَجدت صدىً في نقمةِ جبران على المجتمع. وُلد جبرانُ بالحياةِ وعاشَ بالثورةِ وقام بالفِكر. الذي يُــقـيِّم جبرانَ استنادًا إلى المعاييرِ التقليديّـةِ، وحتّى العلميّةِ، لمدارسِ الأدبِ والفِكر والشِعر والرسْم، يَـقعُ في إشكالـيّـةِ التصنيف. فهو شاعرٌ في نثرِه، وناثرٌ في شِعره، ورومانسيٌّ في فلسفتِه، وفيلسوفٌ في رسْمِه، ومؤمِنٌ في شكوكِه. لَم يَـلتزِم جبران مدرسةً أدبيَّـةً وعَمِلَ بقواعدِها. لَم يَختَرْ نهجًا فلسفــيًّـا واعتمَد جدلــيَّته. تكوَّنت هُويّـةُ جبران الفكريّـةُ بعدما اكتمَل نِتاجُه، فأصبح هو مدرسةً جديدةً تَلتقي فيها مجموعةُ مدارسَ وثقافاتٍ في انسجامٍ متكامِلٍ، وتَحُدُّها ثلاثةُ أبعاد: اللهُ والإنسانُ والطبيعةُ، أي مثلَّثُ الوجود؛ ويُبرِزُها مثلَّثٌ أدبيّ: التبشيريّـةُ والرمزيّـةُ والرومانسيّة في كنفِ فكرٍ فلسفيّ متنوِّع. اغتربَ جبران من دونِ أنْ يهاجِر. ظلَّ مارونــيًّـا من بشرّي من الجَبلِ من لبنانَ من الشرق. أما الانتماءاتُ الزائدةُ إلى هويّتِه كــ"السوريِّ" و"العُثمانيِّ"، فهي مُلصَقاتُ المرحلةِ الإداريّـةِ الزمنيّـة ورواسِبُ منتدياتٍ اغترابيّة. فمتى شعبٌ يَـقتبِسُ هُويَّـةَ الّذين يَحتلّونه؟ قاربَ جبرانُ عقائدَ وتَـيّـاراتٍ سياسيّةً جَـمَّــة، لكنّه حافظَ على عَصبِه اللبنانيِّ وأَوصى بأن يُدفنَ في بلدتِه بشرّي بين الأرزِ ووادي قـنّـوبين، أي بين الوطنيّةِ والقداسة. وأصلاً، إنَّ مواطنًا بمستوى جبران خليل جبران، يُصبح هو ذاتُه أحدَ مكوِّناتِ الهويّـةِ الوطنيّـةِ والإنسانيّـة. ألم يَـقُل جبران: "أنا لبنانيٌّ ولي فخرٌ بذلك، ولستُ بعُثمانيٍّ. لي وطنٌ أعـتزُّ بمحاسنِه، ولي أمّـةٌ أتباهى بمآتيها، وليس لي دولةٌ أنتمي إليها وأحتمي بها. أنا مسيحيٌّ ولي فخرٌ بذلك أيضًا، أنا شرقيٌّ ولي فخرٌ بذلك. ومهما أقصَتْني الأيّـامُ عن بلادي أظلُّ شرقيَّ الأخلاقِ سوريَّ الأميالِ لبنانيَّ العواطف. أنا شرقيٌّ، ومهما أُعجَب برقيِّ الغربيّين ومعارفِهم، يبقى الشرقُ موطِناً لأحلامي ومسرَحاً لأمانيَّ وآمالي". لأنَّ جبرانَ جعلَ الإنسانَ مِحورَ فِكرِه، نَجح في تخطّي موروثاتِ بيئةِ بشرّي ولبنانَ والمشرِقِ وإغراءاتِ بيئةِ نيويورك وأميركا وفرنسا. لعِبَ "ورَقةَ الإنسان". وضَعَه، كفردٍ وجماعةٍ، فوقَ كلِّ اعتبارٍ دينيٍّ أو وطنيٍّ أو اجتماعيٍّ أو جُغرافيّ. فقارئ جبرانَ يَعجَزُ عن تحديدِ الفارقِ الفكريِّ بين ما كـتَبه في لبنانَ وأميركا، والفارقِ في المعاناةِ بين ما كـتَبه فقيرًا ومَيسورًا. انحَصرَت الفوارقُ في الصورِ والتشابيهِ والأمثلةِ من دونِ أن تَمسَّ الثوابتَ الجُبرانيّـة. واءَمَ بين تماثيلِ القِدّيسينَ في بشرّي وتمثالِ الحرّيةِ في نيويورك. فإنْ لَم يَكن الدينُ طريقًا نحو الحرّيةٍ يُمسي تمثالاً جامدًا. ظلّ جبران متأثّـِـرًا بالإنجيلِ طَوال حياتِه لثلاثةِ أسبابٍ على الأقل: إعجابُه بأسلوبِه الطوباويّ فطَبعَ جميعَ مؤلّفاتِه، إيمانُه بتعاليمِ المسيح فعبَّر عنه في كتبِه "يسوعُ ابنُ الإنسان" و"آلهةُ الأرض" و"التائهُ" و"المجنونُ" و"حديقةُ النبيّ" إلخ... واعتقادُه بأنّـه هو أيضًا صاحبُ دورٍ رسوليٍّ فأبرزَ ذلك في كتابِ "النبيّ". إنْ طمَحَ جبران أنْ يكونَ كتابُـه "النبيّ" زميلاً للإنجيلِ، فجميعُ كتبِ جبران تفسيرٌ وترجمةٌ للإنجيل بما يُمثِّل من ثورةٍ على الظُلمِ ومِن سُموٍّ بالإنسانِ نحو الطهارةِ والحقِّ والجَمال. جعلَ جبران إنجازاتِ يسوع في متناوَلِ الفَهمِ البشريّ. ألَّهَ المسيحَ و"أنْسَنَ" الإنجيل. سَهّلَ مرورَ الأعجوبةِ إلى المنطقِ واستقرارَها في الذاكرة. المسيحُ كلَّمَنا بالأمثالِ وجبران كلَّمَ قارئيه بالقِصص. الرسلُ الأربعةُ الّذين كتبوا الأناجيلَ أدخلوا تعاليمَ المسيح إلى قلوبِنا، وجبرانُ أدخَلها إلى بيوتِنا وصارت شخصيّاتُ الإنجيلِ منّا وفينا. فِكرُ جبران روحانيٌّ بالشكلِ والتعبيرِ والمضمون. عبرَ تَجوالي في صفحاتِ كتبِه ما وَقعتُ على شرٍّ أو حِقدٍ أو قُبحٍ أو فُجورٍ. ورسوماتُه العاريةُ تَبعَثُ في النفسِ الخشوعَ وترفعُها إلى الأزليّةِ وكأنّها مستمَدَّةٌ مِن فكرةِ الخَلقِ. لقد تَقصَّد جبرانُ أن يَرسُمَ الإنسانَ عاريًا لينزَعَ عنه ثيابَ الأرضِ والخطيئةِ ويُـعيدَه إلى ولادتِه الأولى، إلى الطبيعةِ والطهارة. كان جبران مؤمِنًا بالله رغم أنّه انتقدَ المؤسّسةَ الدينيّة ورجالَها ("الأجنحةُ المتكسِّرةُ"). وكان روحانـيًّـا رغم أنّه سَلكَ دربًا خاصًّا يقودُه إلى الربّ (مُجمَلُ كتبِه). ثارَ على السلوكِ ولم يَـثُر على التعاليم ("الأرواحُ المتمرِّدةُ"). كيف يكونُ جبرانُ ملحِدًا وهو نشأ في بشرّي، وتَتلمَذَ على يدِ الأب جرمانوس، ودرسَ السِريانـيّـةَ، وتَـعلّم في مدرسةِ الحِكمة؟. لقد أغنى جبرانُ مسيحيّــتَـه وعَوْلم مارونيّـتَه. لم يسعَ من خلالِ تحديثِ مفهومِ الدين أنْ يَخلُقَ مذهبًا جديدًا أو طائفةً أخرى على غرار "جان كالفن" أو "مارتن لوثر". لكنَّ ثلاثَ فئاتٍ شَوَّهت عبثًا صورةَ جبران الروحانيّـة: المتزمِّتون دينيًّا إذ خافوا مِن فكرِه الإصلاحيِّ فزعموا أنّه كافرٌ ثم تراجعوا مع تطوّرِ العصرِ والكنيسة، والمُلحِدون إذ اشتَهَوا ضَمَّ جبران إلى صفوفِهم ومصادرةَ فِكره فوقَعوا في جدلـيّةِ التناقُض، والحسّادُ من أصدقائِه إذ هالَـتْهم شُهرتُه فـنَـقّبوا عن الصغائرِ ليحجُبوا عظمةَ جبران، وما أَفْلَحوا. مِن كُتبِ جبران يَفوحُ عِطرُ الروحِ أكثرَ مِمّا يَفوح من بعضِ الكتبِ الدينيّة. أَقرأتُم ما قالَ في "رملٍ وزبَد": "فكّر اللهُ، فكان فكرُه الأوّلُ مَلاكًا. وتكلَّم الله، فكانت كلمتُه الأولى إنسانًا"؟ كان بوِدِّ جبران أن يكونَ حاضرًا في المِذودِ لدى ولادةِ يسوع. أخذَ على خاطرِه ألّا تَظَهرَ عليه "نَجمةٌ في المشرِق" كما ظَهرت على الرعاةِ والمَجوسِ ليذهبَ ويَسجُدَ مثلَهم ليسوع. في قرارةِ نفسِه حَلَمَ جبرانُ أنْ يولدَ بلا دَنس، أنْ يكونَ التلميذَ الثالثَ عشَرَ ليسوعَ المسيح، أنْ يَكتبَ أحدَ الأناجيلِ الأربعة، أنْ يُكمِلَ رسائلَ مار بولس، أنْ يَتعرَّفَ على المِجدليّةِ ويؤانِسَها، وأن يكونَ يوحنّا الذي أودَعَه يسوعُ أمَّه مريم وهو على الصليب: "هذه أمُّكَ". صَنعَ جبرانُ نفسَه وإلهَه وكنيستَه ومجتمعَه وأمّـتَه. خَلقَ عالَـمًا خاصًّا به هو " بين الأرضِ والسماءِ كلام". سكنَ قلبَ الله، أخذَ النايَ وغنّى الله والإنسانَ والمرأةَ والطبيعةَ ولبنانَ فـتَبِعَته "المواكب". يَنطبِقُ على جبران ما أوصانا هو به: "ليست حقيقةُ الإنسانِ بما يُظهِرُه لك، بل بما لا يستطيعُ أنْ يُظهِرَه، لذلك إذا أردتَ أنْ تعرِفَه فلا تُصغِ إلى ما يقولُ بل إلى ما لا يقول". وها إني أخْبرتُكم بما لم يَستطِعْ أَن يقُولَــه.