بـيـئـةٌ غـيـرُ حـاضـنـةٍ لـلـديـمـقـراطـــيّــة
تزامنَت ولادةُ جبران سنةَ 1883 مع رحيلِ الموسيقار "ريتشارد فاغنر"نخافُ على الكيانِ اللبنانيِّ والصيغةِ ونُـهمِلُ الديمقراطـيّةَ المأزومةَ في بلادِنا، وكأنّها "عُضوٌ شَرف" في الجسمِ اللبنانيّ فيما هي "عُضوٌ مؤسِّسٌ" للكِيان. وهي الحلُّ الحضاريُّ لمشاكلِنا الميثاقيّةِ والمنقِذُ الدستوريُّ للدولةِ والكيانِ والصيغة. إنَّ جُزءًا واسعًا من أزَماتِنا السياسيّةِ والأمنيّةِ، ما كان ليقَعَ ويَستفحِلَ لو انتظمَ الأداءُ الديمقراطيّ. فالديمقراطيّةُ ليست نظامَ حُكمٍ فقط، بل منظومةُ حلولٍ لأيِّ طارئٍ في الحياةِ العامّة. إليها تَـحتكِمُ الشعوبُ المتَحضِّرةُ لتسويةِ خِلافاتِها الوطنيّةِ والدوليّةِ بعيدًا عن العُنف. وأعترفُ أنَّ حَيْرةً تَعتريني حين أحاولُ تحديدَ سببِ عُطْلِ الديمقراطيّةِ في لبنان. أهي الطبقةُ السياسيّةُ أم الصيغةُ الطائفيّة؟ أهو الولاءُ الوطنيُّ الناقصُ أم الشَرَهُ السياسيُّ الزائد؟ أهو الاختلالُ الديمغرافيُّ أم صراعاتُ المحيطِ الجغرافيّ؟ أهي الحروبُ والأزَماتُ المتواليةُ أم القضيةُ الاجتماعيّةُ المتفاقِمة؟ الجوابُ المباشَر ـــ والصحيحُ أيضًا ــــ أنَ جميعَ هذه الأسبابِ مجتمِعَةً مسؤولةٌ عن تراجعِ الديمقراطيّةِ اللبنانيّة. وأعني المفهومَ الواسعَ للديمقراطيّةِ أيّ مجملَ سلوكِ الحياةِ في المجتمعِ اللبنانيّ، وقد باتَ تافهًا وساقِطًا، وليس المفهومَ التقنيَّ أيّ الاستحقاقاتِ الانتخابيّةَ وهي متعثِّرةٌ دائمًا ومعطَّلةٌ غالبًا. لكنْ، باعتقادي، أن السببَ الأساس الذي نَبتَتْ حولَه الأسبابُ الأخرى هو: إقدامُ مكـوّناتٍ لبنانيّةٍ، تِباعًا وبدعمٍ إقليميٍّ، على إعادةِ التكوينِ الطائفيِّ خلافَ الميثاقيّةِ ونمطيّةِ الحياة من دونِ تغييرِ الكيانِ اللبنانيّ، ومن دونِ احترامِ النظامِ الديمقراطيّ. فالكيانُ اللبناني يكون ميثاقـيًّـا وديمقراطيًّا أو لا يكون. صِيغَ لبنانُ ليُعجِبَ الجميعَ فما عاد يُعجِب جميعَ مكوّناتِه، وتأسَّس ليَجمَعَ أبناءَه فقسَّموه فشَـــتَّــتَهم. قليلون أدركوا أنَّ لبنانَ مَــزْجةٌ كيميائـيّـةٌ تَنسابُ كالموسيقى الكلاسيكـيّـة، وتَنفجِرُ كالبارودِ لمُجرَّدِ المسِّ بأحدِى موادِّها. هكذا زَحَلَ لبنانُ من ثنائيّةٍ دينيّة قَيدَ الانشاءِ (المسلمون والمسيحيّون) إلى ثنائيّةٍ مذهبيّةٍ قَيدَ النزاعِ (السُنّةُ والشِيعةُ) من دونِ إلغاءِ الأولى، فأضيفَت صيغةٌ مفجِّرةٌ إلى الصيغةِ المفجَّرة، ما ارتدَّ على الديمقراطيّةِ الشابّةِ والكيانِ الطَريّ، وأصبحَ لبنانُ نقيضَ ثلاثِ وَحَداتٍ: اللبنانيّةِ، والإسلاميّةِ، والمسيحيّةِ/الإسلاميّة، أي نقيضَ ذاتِه، ففَقدَ رُشدَه الوطنيَّ واضطَرَب وتَاهَ وأصبحَ مجتمعًا عصبيًّا، وأضاعَت الديمقراطيّةُ صفاءَها. ليست الديمقراطيّةُ نِظامًا تقنيًّا فقط كالديكتاتوريّـةِ، بل هي نمطُ حياة، وليس الكِيانُ مساحةً جُغرافيًةً فقط كالأرض، إنما هو شَراكةٌ إنسانيّة. لم تَتحمّلِ الديمقراطيّةُ ثِقلَ الميليشياتِ السابقةِ ولا عِبءَ الميليشياتِ الحاليّةِ فانكفأت، كما لم يَـحتمِلِ الكِيانُ لُعبةَ الطائفيّةِ المستدامةِ ولا عبَثَ المذهبيّةِ المتجدِّدة فتَرنَّح. خَسِرَ لبنانُ مواصفاتِ الوطن. والمـؤلِـمُ أن اللبنانيّين دفعوا ثمنَ وطنٍ لكنّهم استثمَروا مزرَعة. والموجِعُ كذلك أنَّ لبنانيّين انتزعوا وطنًا من براثنِ الأممِ فرَماهُ لبنانيّون آخَرون في صراعاتِها. حين تُهمَّشُ الديمقراطيّةُ تقعُ الميثاقيّةُ ويَلحَقُ بهما الكِيان. يَخرجُ الحكَّامُ عن الدستورِ ويُطوِّعون المؤسساتِ. تُتحوّلُ الثوابتُ اجتهادًا وتَضعُف الدولةُ وتَفقِدُ مناعتَها فـتُـمسي عُرضَةً للفيروسات والأمراض. حينئذٍ تنتعشُ الـمُحرَّماتُ ويُـحلِّلُ المسؤولون لأنفسِهم أنْ يَتصرّفوا كَوكلاءَ تَفليسةٍ. يضعون أيادِيهم (جمعُ الجمعِ) على خيراتِ الوطنِ كأنّها مغانمُ سلطة. إنّـه سَــبْـيُ لبنان. أهلُ السياسةِ في بلادِنا يَعتبرون الانتخاباتِ النيابيّةَ "شُـبّاكَ تذاكِر" لا صندوقةَ اقتراع، والمواطنين "قُطاّعَ تذاكِر" لا ناخبين. منهم يأخُذُ السياسيّون بِطاقةَ دخولٍ إلى "ملكوتِ" السلطةِ وبها يَـعيثون. وآخِرُ خديعةٍ هي إلهاءُ الشعبِ بشرحِ تَعاويذ قانونِ الانتخابِ عِوضَ شرحِ البرامجِ الانتخابيّةِ والوطنيّة. لذا، باطلةٌ سلفًا أيُّ عمليّةٍ إصلاحيّةٍ تَنطلقُ من واقعِ الاختلالِ الميثاقيِّ والديمقراطيِّ القائمِ في دولةِ لبنان. وسنتأكّدُ مِن ذلك فورَ صدورِ النتائجِ المقرَّرةِ للانتخاباتِ النيابيّةِ في أيّار المقبل. وأصلاً، قَد حُبِكَ قانونُ الانتخاباتِ الجديدِ ليُشرِّعَ اختلالَ الأمرِ الواقع وليؤسِّسَ لنظامٍ آخَر من دونِ إعلانٍ رسميّ. ومرّةً أُخرى تُسخَّرُ الديمقراطيةُ، في التاريخِ الحديث، فـتُمَدُّ سَجّادةً حمراءَ يَـمرُّ أعداؤها عليها. إن درجةَ المُلوحةِ الطائفيّةِ في الجوِّ اللبنانيّ أثّرت على مخزونِ الديمقراطيّةِ، كما أنَّ الاحتباسَ المذهبيَّ ضَغط على الـمُناخِ الديمقراطيِّ عندَنا. وإذا كانت الديمقراطيّةُ في أوروبا والعالم انتشَرت مع تراجعِ سلطةِ الدينِ في الدولةِ والمجتمعِ، فكيف للديمقراطيّةِ أنْ تَستعيدَ عافيتَها في لبنان والطوائفُ والمذاهبُ تَتقدّمُ في الدولةِ وتتربَّعُ في المجتمَع وبعضُها يَـخنُق الحرّياتِ والإنسان؟ لقد أصبحَ لبنانُ بيئةً غيرَ حاضِنةٍ لنظامٍ يَرتكز أساسًا على الحرّياتِ والفصلِ بين السُلطات. حاولنا في لبنان أن نُكيّفَ فلسفةَ النظامِ الديمقراطيِّ مع خصوصيّةِ المجتمعِ اللبنانيّ. تَقدّمت التجربةُ طالما كانت الطائفيّةُ ممرًّا نحو مجتمعٍ مدنيٍّ، لكنّها تراجَعت لـمّا أصبحَت الطائفيّةُ مَعبرًا نحو مجتمعٍ دينيٍّ متزمِّتٍ ورافضٍ القيَمَ العالميّة. صحيحٌ أنَّ العلمنةَ ليست شرطًا للديمقراطيّةِ، لكنَّ التزمُّتَ الدينيَّ هو عائقٌ أمامَها. إنَّ مفهومَ الديمقراطيّةِ لدى طائفةٍ مختلِفٌ عن مفهومِها لدى طائفةٍ أخرى، كما أنَّ تطبيقَها في محافظةٍ مختلِفُ عن تطبيقِها في محافظةٍ أخرى. صارت الديمقراطيّةُ عندَنا ديمقراطيّاتٍ مثلما صارت الدولةُ دويلات. لذا، يبدو النظامُ اللبنانيُّ مُعلّــقًا بين ديمقراطيّةٍ تَطلب السماحَ بالمرورِ وبين تزمُّتٍ دينيٍّ يُخالِف قانونَ السيرِ ومسارَ التاريخ. عاجِلاً أو آجِلاً، ستكون حصيلةُ المواجهةِ لمصلحةِ الديمقراطيّة. التقدّمُ أقوى من التخلّف، والحرّيةُ أقوى من الكبْت. والدين أقوى من العابثين به. يَبقى أنْ نَعرِفَ كيفَ ومتى. هذه التحوّلاتُ السلبيّةُ لا نَشعُر بتأثيرِها في حياتِنا اليوميّة. حركةُ المجتمعِ تَحجُب الأخطارَ المصيريّـة، فنَهـرُبُ من الاعترافِ بها كما يُخفي التجميلُ تجاعيدَ السنواتِ، فنُنكِرُ العُمرَ لكنْ لا نُـغيّـر في "المكتوب". لكَـثرةِ ما عانيْنا أصبحنا نَرفض مُـجرّدَ التفكيرِ باحتمالِ تعرّضِنا لمعاناةٍ جديدة. وإذا كنا شعبًا متفائلاً بالحياة، فالتفاؤلُ لا يَمنعُ اليقَظةَ، لاسيّما أنَّ أداءَنا الوطنيَّ ساءَ رغمَ المعاناةِ والمِحن.