الـــنــاسُ هُــمُ الـتـفـاؤل والدولــةُ هي التشاؤم

الدولةُ اللبنانيّةُ تدعو الناسَ إلى التفاؤلِ وتُقدِّمُ لهم القَرَف، والناسُ يَتمنّون التفاؤلَ ولا يَجِدون سَندًا له في أعمالِ الدولة. الدولةُ تُشِيعُ التفاؤلَ لإعطاءِ انطباعِ أنَّ ممارساتِـها المغلوطةَ هي صحيحةٌ، والشعبُ اللبنانيُّ يَـجفُلُ رُغمَ طبيعتِه المتفائِلة، فعينٌ لا ترى نَفسٌ لا تتفاءَل. لقد جرى تَسييسُ كلمتَي "تفاؤلٍ" و"تشاؤمٍ". صارا مِحورَيْن. وباتَ الشعورُ النفسيُّ بالتشاؤمِ تجاهِ الوضعِ الملوَّثِ، موقِفًا سياسيًّا نُـعاتَبُ عليه. عَلاوةً على أنَّ التفاؤلَ والتشاؤمَ وِجْهتَا نظرٍ في الحياةِ اليوميّة، هُما نظرَتان فلسفيّتان إلى الإنسانِ والمجتمعِ والحياةِ والكون. التفاؤلُ هو الثقةُ بالمستقبَلِ لا بالطَقس، والتشاؤمُ هو الخوفُ على المصيرِ لا على اللحظة. وكِلاهُما يتساوى في حثِّ الفردِ على النضالِ والثورةِ والتغيير. التفاؤلُ إيجابيّةٌ والتشاؤمُ صدمةٌ إيجابيّة. لكن التفاؤلَ الوَهميَّ أسوأُ مِن التشاؤمِ الُمطلَقِ لأنّه يُـــبَــنِّجُ الذاتَ ويُـخِدِّر المجتمعَ ويَـمنعُ التغيير. هذه حالنُا في لبنان. التفاؤلُ الـمُفرِطُ ما مَنعَ الفيلسوفَ الألمانيَّ "ليبنيز" (Leibniz) في القرنِ السابعِ عشَرَ والمشهورَ بعبارتِه: "كلُّ شيءٍ على ما يُرام"، مِن أنْ يؤسِّسَ أجيالاً في علمِ الفلسفةِ والحِساب. والتشاؤمُ الحذِرُ ما مَنعَ الفيلسوفَ الفرنسيَّ، "ڤولتير" (Voltaire)، مِن أنْ يُطلِقَ "عصرَ الأنوارِ" في القرنِ الثامنِ عشَر ويُلـهِمَ الثورةَ الفرنسيّةَ. في سياقِ المقارِنةِ، أيُّهما أفضلُ: مواطِنٌ لبنانيٌّ يَـقنَعُ بتقنينِ الشفافيّةِ والنزاهةِ والمياهِ والكهرباء، أو آخَرُ يَـنقَمُ على التقنينِ ونحنُ في القرنِ الواحدِ والعشرين؟ الأوّلُ متفائلٌ نظريًّــا لكـنّه مُحبطٌ عملـيًّا، أي متشائمٌ. والآخرُ متشائمٌ نظريًّا لكـنّه متمرِّدٌ عملـيًّا، أي متفائل. في الدولِ المتقدِّمةِ حضاريًّــا وعِلميًّــا وإنمائــيًّـا، تَشعُر الشعوبُ بقلقٍ حَيَالَ المستقبَلِ وتَنتفِضُ، فكيف الحالُ بنا في لبنانَ وقد صِرنا في دارِ التخلّف؟ أظهرَ استطلاعُ رأيٍّ لمؤسّسةِ إيڤوپ (IFOP) الفرنسيّة أنَّ 59% من الفرنسيّين متشائمون بمستقبَلِ بلادِهم مقابلَ 41% متفائلون به. لكنَّ المفارقةَ هي نتائجُ استطلاعِ رأيٍّ أجرتْه مؤسّسةُ "وِن غالوب" (Win - Gallup) الأميركيّةُ مع 64 ألفِ مواطنٍ في 65 بلدًا، وأظهرَ التالي: 75% من الأفارِقةِ و67% من الأسيويّين و12% فقط من الأوروبيّين الغربيّين متفائلون بأيّامٍ فُضلى. أي أنَّ شعوبَ الدولِ الناميةِ أقلُ تشاؤمًا من شعوبِ الدولِ المتقدِّمة (أوروبا). يعود التفسيرُ، في ظنّي، إلى الفوارقِ في سقفِ الطموحاتِ والمتطلّبات، وإلى اختلالِ مستوى الثقافةِ بين هذه الدول. صارت القناعةُ ميزةَ الفقراءِ الـمُعْوزين عوضَ أن تكونَ سِمَةَ الأغنياءِ الميسورين. بحبوحةُ طبقةٍ اجتماعيّةٍ واحدةٍ لا تَعكِسُ صِحَّةَ المجتمعِ اللبنانيِّ بل تؤكدُ اعتلالَه. ولازِمةُ التطميناتِ الرتيبةِ عن الأمنِ والاقتصادِ والاستقرارِ التي يُكرِّرها المسؤولون مؤشِّرُ ضُعفٍ لا مؤشِّرَ ثقة. إنّها استراتيجيّةُ التسكينِ الإعلاميِّ لتغطيةِ العجزِ السياسيّ. أبعْدُ من هذا العهدِ أو ذاك، ومن هذه الحكومةِ أو تلك، أليس غريبًا سلوكُ اللبنانيّين اللامبالي اجتماعيًّا والانهزاميُّ سياسيًّا؟ إنَّ ما يجري منذ سنواتٍ لا يَصُبُّ في مشروعِ بناءِ الدولةِ ولا في مشروعِ تقدّمِ الشعبِ اللبنانيّ، وكأنَّ مسارَ التجربةِ اللبنانيّةِ التحقَ بالمسارِ العربيِّ المتقَهْقِر. سنةَ 1920، بعد جولةٍ في تركيا والشرقِ الأوسط، كتبَ أرنولد توينبي (Arnold Toynbee) أحدُ كبارِ مؤرِّخي القرنِ الماضي: "لستُ واثقًا مِن أنَّ اتجاهَ تاريخِ هذه المِنطقةِ سيلتقي مع تقدُّمِ الإنسانيّة، ولا أجدُ مُبرٍّراً لتفاؤلِ بعضِ النُخب". يَصطدِمُ التحليلُ السياسيُّ، بــبُـعدَيْــه التاريخيِّ والرؤيويِّ، بميلِ الناسِ إلى القَبولِ بالمعالجاتِ الآنيّةِ لمشاكلِها على حسابِ الحلولِ الطويلةِ الأمَد. مع الوقت، يَــتطَـبّعُ الناسُ مع الأمرِ الواقِع، بينما المحلِّلُ يَـتمرّدُ عليه فيختلِفُ عن هوى الناسِ الـمُستَكفِين. كأنَّ واجبَ المحلِّلِ أنْ يتشاءمَ ويُـحذِّر، وحقَّ الناسِ أنْ يتفاءلوا ويُـقْدِموا. هذا الواقعُ النفسيُّ والاجتماعيُّ يَـجعلُ المحلِّلَ نقيضَ عدميّةِ الحاضرِ ويُوسَمُ بالسلبيّة. إنَّ الصيغةَ الفُضلى هي التوفيقُ بين حكمةِ المتشائمِ وإرادةِ المتفائل. الناسُ في لبنان ليسوا ضِدَّ الطروحاتِ السياديّةِ والمعالجاتِ الجذريّة، لكنّهم يَستهوِلونَها خَشيةَ حدوثِ اضطراباتٍ تؤثِّر على حياتِهم اليوميّة. الناس تُحبُّ البِحارَ وتَخافُ الأمواجَ العاتيةَ. وأصلاً، قلّما عرَف التاريخُ ثورةً شعبيةً من دونِ قيادةٍ مُـحرِّكة. كان "جورج كليمنصو"، رئيسُ وزراءِ فرنسا في بداياتِ القرنِ الماضي، يَعتبر المسالِمين (les pacifistes) خِياليّين خطيرين ومسؤولين عن وقوعِ الحروبِ والهزائم، لأنَّ نظرتَهم الورديّةَ إلى "واقعِ الحال" (statu quo) تَضِرب معنوياتِ الأمّةِ وتُحطِّمُ طموحاتِها. وانتقَد "كليمنصو" بقساوةٍ "جان جوريس" (Jean Jaurès)، البرلمانيَّ الاشتراكيَّ المسالِـمَ المتفائلَ الذي عارضَ دخولَ فرنسا الحربَ العالميّةَ الأولى، وقال عنه بعد وفاتِه: "لو كان جوريس رئيسَ وزراءِ سنةَ 1914 لاجتاحَ الألمانُ فرنسا". مصدرُ التفاؤلِ الأساسيُّ في لبنان هو أملُ الناسِ بالحياةِ، لا عملُ الدولةِ للناس. في حياتِهم الخاصّةِ يَكتفي الناسُ بالملذّاتِ الصغيرة يُراكِمونها لتُـؤلِّفَ سعادةً، أمّا في حياتِهم الوطنيّةِ فــيَنشُدون إنجازاتٍ لـتَحميَ مصيرَهم. حياتُنا اليوميّةُ زاخرةٌ بالبُشْر: عيونُ أولادِنا، إبداعاتُ شبابِنا وشبّاتِنا، كَدُّ العاملِ وكَدْحُ الفَلاّح، تعبُ المزارِعِ وصِراعُ البَحّار، عِنادُ شعبِنا ومقاومتُه، انتشارُ المغتربين وإسهاماتُهم في تَقدُّمِ العلمِ والعالم، صمودُ اقتصادِنا وعُملتِنا الوطنيّة، حركةُ مطارِنا ومرافئِنا، نشاطُ المجتمعِ والناسِ عمومًا، إلخ. لكنَّ جميعَ هذه الإيجابيّاتِ تحتاجُ إلى "الاستقرارِ المصيري". ويَنقُصها مِلحُ الدولة: هو مفقودٌ وهي غائبةٌ، وكلّما تَدخَّلت أفسَدَت وهَيمنَت وأقلقَت. عادةً، الشعبُ يَـخلُق مشاكلَ للدولة، أما في لبنان، فالدولةُ تَخلُق مشاكلَ للشعب. مَن يَدُلُّني على يومٍ واحدٍ، بما فيه أيّامُ الآحادِ والأعياد، مَــرَّ من دونٍ اشتباكٍ بين أركانِ الدولة؟ ورغمَ ذلك، في الانتخاباتِ المفتَرضةِ، سنَفتديهم "بالروحِ والدَم"... وبالغازِ والنَّفط. ليس اللبنانيّون متشائمين أو متفائلين، إنّهم مازوشيّون. افتَحوا "الـمُنجِد"... أصلاً، نحتاجُ إلى مُنجِد.

Previous
Previous

تَـــجـــديـــدُ الـــبَـــيْـــعـــة

Next
Next

انتخابُ التمديد في غيابِ الصوتِ التغييريّ