انتخابُ التمديد في غيابِ الصوتِ التغييريّ
إن درجةَ المُلوحةِ الطائفيّةِ في الجوِّ اللبنانيّ أثّرت على مخزونِبين 1943 و 2018 حَصَلت14 انتخاباتٍ نيابيةً وانتُخِب 1333 نائبًا (عددُ المقاعدِ المتراكِمة). وترأّسَ المجلسَ النيابيّ 7 رؤساءَ على مدى الــ 75 سنةَ استقلالٍ فيما ترأّسَه 9 رؤساءَ على مدى 15 سنةً فقط تحت الانتدابِ الفرنسي (1922/1943). ومن الرؤساءِ السبعةِ، ثلاثةٌ ترأّسوه مدّةَ 58 سنةً: صبري حماده (17 سنة)، كامل الأسعد (15 سنة) ونبيه بِرّي (26 سنة)، وتوزّعت الـ 17 سنةً الأخْرى على الأربعةِ الباقين. هذا يعني أنَّ الاستحقاقاتِ كانت تَـحصُل في وقتِها والديمقراطيّةَ كانت مَصونةً لكنَّ التغييرَ كان منقوصًا. أما اليومَ، فاحترامُ الاستحقاقاتِ مزاجيٌّ والديمقراطيّةٌ معلّقةٌ والتغييرُ ذَرُّ رَمادٍ في العيون. كان اللبنانيّون قانعين بديمقراطيّتِهم وبمُمثّليهم، وكان التغييرُ عبارةً يُــتَداوَلُ بها من دونِ بَذْخ. لم تكن الحاجةُ إلى التغييرِ ملحَّةً كما هي اليوم. كان الطموحُ أكبرَ والحاجةُ أقلَّ. وكان اللبنانيّون يُـغـيّـرون من حسابِهم الجاري ولا يَنكشِفون ولا يَستقرِضون زعماءَ ووزراءَ ونوابًا. كان التغييرُ "بَــيْتوتي". يَضجَرون من "الكُتلةِ الدُستوريّةِ" فـيَنتخبون "الكُتلةَ الوطنيّة"، يَـتبَــرَّمون من "النهجِ الشِهابيّ" فيُصوِّتون لـــ"الحِلفِ الثلاثيّ". كانوا يَتغالَبون بالوطنيّةِ ويَتعادَلون بالسياسة. ورُغمَ تعدّدِ الولاءِ كانوا جميعًا "أُمَّ الولَد. تلكَ الأحزابُ والكُتلُ التاريخيّةُ قدَّمت للشعبِ أفضلَ شخصيّاتِـها للنيابةِ والوزارةِ فتباهى المحازِبون بها، ولا يزالون يُردِّدون وَقَفاتِها وخِطاباتِـها ونوادِرَها وأفكارَها وأقوالَـها المأثورةَ، بينما نَكتفي اليومَ ـــ من دونِ تردادِها ـــ بنِكاتِ النائبِ الظريفِ سيرج طورسركيسيان، ونَبتَهجُ بالشتائمِ تَعبُر جلساتِ مجلسِ النوّابِ والوقاحةَ تَجتاز جلساتِ مجلسِ الوزراء. إبّانَ حربِ السنتين سيطرَت كلمةُ التغييرِ على حياتِنا العامّة لأنَّ ما حَدثَ زَلزلَ الصيغةَ اللبنانيّةَ وضربَ الثقةَ بين المكوِّناتِ اللبنانيّةِ واتّـخَذ مفهومُ التغييرِ أبعادًا جديدةً لامَست الوِحدةَ الوطنيّة. راحَ اللبنانيّون يطالِبون بتغييرِ الذِهنيّةِ والدستورِ والنظامِ والصيغةِ والشريكِ والكيانِ من دونِ تقديمِ بديلٍ واقعيٍّ، فيما كان المطلوبُ أنْ يُـغيّروا ما بأنفسِهم لتَسلَمَ الحال. ومع التمديدِ للمجلسِ النيابيِّ نحو عشرينَ عامًا بسببِ الحربِ، أدْمَنَ اللبنانيّون الاحتكامَ إلى السلاحِ لإجراءِ تغييراتٍ عسكريّةٍ وسياسيّةٍ ودستوريّةٍ عوضَ الاحتكامِ إلى الديمقراطيّةِ عَبر الانتخاباتِ النيابيّة. التغييرُ بالدمِ والحقد. هكذا استَبدَلَ الشعبُ أمراءَ الدولةِ بأمراءِ الحربِ، وتَـحَكّمَ قادةُ الميليشياتِ بقادةِ الكُتلِ النيابيةِ والأحزابِ، وتَسلَّطَ قادةُ الأحياءِ والمخيَّماتِ على زعماءِ الشعبِ والوطن. فكان التغييرُ السلبيُّ الأوّلَ، وقد تَكرَّس جُزئيًّا في انتخاباتِ 1992. في تلك الانتخاباتِ النيابيّةِ حَصل تغييرٌ أساسيّ، إذ انـبَـثقَت طبَقةٌ سياسيّةٌ "كنعانيّةٌ" مع مشروعٍ سياسيٍّ جديدٍ من وحي "اتفاقِ الطائف" بنُسختِه السورية. لكنَّ العمليّةَ الانتخابيّةَ افتقَدت صِحّةَ التمثيلِ الدُستوريِّ والميثاقيِّ والوطنيّ والطائفيّ لأنها جَرت بالرغمِ من مقاطعةٍ مسيحيّةٍ شامِلةٍ تَكَلّلت إسلاميّا بدعمِ الزعيمِ اللبنانيِّ صائب سلام ونجلِه تمّام، ولأنها نِتاجُ الاحتلالِ السوريِّ حيثُ شَرّعَ المجلسُ النيابيُّ "المنتخَب" سيطرةَ سوريا على لبنان. والمُحزِنُ، آنذاك، أنَّ وجوهًا نُـخبويّةً وتغييريّةً نَزعَت مبادِئِها والتصَقَت بأمراءِ الحربِ والمالِ لتَصلَ إلى المجلسِ النيابيِّ، وشَكَّلت ـــ حتى بمعارضتِها إيَّاهُم ـــ غطاءً لهم. الوقتُ يُنسي لكنَّ التاريخَ لا يَنسى. بعدَها حصلَ تغيِيران وِجدانيّان ووطنيّان في الشارعين المسيحيِّ والسُنّي إثر انتخابات 2006 و 2009: ففي ظلِّ شعاراتٍ سياديّةٍ، حصدَ تيّارُ الجنرال ميشال عون غالِبيّةَ المقاعدِ المسيحيّة، وتيّارُ الرئيس سعد الحريري غالِبيّةَ المقاعدِ السُنيّة. لكن سرعان ما تَحالف عون مع سوريا وحزبِ الله في "تفاهم مار مخايل"، واقتدى به سعدُ الحريري ضِمنًا في "التسويةِ الرئاسيّةِ" الأخيرة، ففَقَد التغييران مضمونَهما السياسيَّ والوطنيَّ، وصارت الحالةُ العونيّةُ والمستقبليّةُ جُزءًا من منظومةِ 1992. ومن يَنتخِبْ يَر: ستكون نتائجُ انتخاباتِ أيّار 2018 أيضًا ــ في حالِ حصولِها المُشتَهى ـــ تتمّةً لانتخاباتِ التسعينات: تمديدٌ مُنتخَب. إن التغييرَ في لبنان، بفعلِ نسيجِه المتشابِك، مسيرةٌ طويلةٌ وشاقةٌ وتدريجيّةٌ ومتقَطِّعةٌ، وليس مضمونًـا أنْ تؤدّيَ إلى الأفضل. عدا المَيدانِ العلمِيّ، مسارُ تاريخِ الشعوبِ مُتعرِّجٌ. وبالتالي، إنَّ التغييرَ الجذريَّ والكاملَ في لبنانَ مستحيلٌ عمليًّا بسببِ غيابِ الإرادةِ الشعبيّةِ، وممكنٌ نظريًّـا بفَضلِ تّـوفُّرِ الآلياتِ الديمقراطيّة. وما يُعقِّدُه أكثر، أنَّ الذين يَنتحِلون صِفةَ "التغييريّين" يَـغِشُّون الناس عن سابقِ تصوّرٍ، فَـهُم جُزءٌ من لُعبةِ الجاهِ والسلطةِ والوصوليّةِ، ولا يَـحلُمون سوى بـــ"مَرقَدِ عنزةٍ" في لوائحِ أهلِ النظامِ وأبناءِ السلطةِ، فيما يَـدَّعون "النضالَ" لتغييرِ النظامِ والسلطةِ والقائمين عليهما. هؤلاء متغيّرون أكثرَ مـمّا هم تغييريّون، وفي لغةِ العصرِ، هم "زابِّـــيُــون" (من zapping): إنْ ناداهُم حزبُ "القوّاتِ اللبنانيّةِ" هَرَعوا، وإنْ هَتف لهم "التيّارُ الوطنيُّ الحرُّ" هَروَلوا، وإنْ غَمزَهم "تيّار المستقبلِ" أَسْرعوا، وإنْ لَــوَّح لهم "حزبُ الله" سَـبَّحوا، حتّى إنْ صَرخَ بهم "داعش" ذَبحوا. إنّهم "طالِبو قُربى". العامَ الماضي، خَصّص أساقفةُ "كينيا" فترةَ الصومِ للصلاةِ من أجلِ أنْ يُلهِمَ اللهُ المواطنين فيصوِّتوا للمرشّحِين الصالحين. ومن دونِ التورّطِ في الصراعِ السياسيِّ، حاولوا مساعدتَهم أيضًا بوَضْعِهم مواصفاتِ المرشّحِ الصالِح، فاقترَحوا أنْ يكونَ: مثقّفًا، شُجاعًا، شريفًا، نزيهًا، واقعيًّا، وطنيًّا، مستقِلاً، رؤيويًّا، طموحًا، متحالفًا مع بيئتِه الفكريّة، ثابتًا على مبادئِه السياسيّة، مُتمرِّدًا على الغَلط. والجميلُ، أنَّ إذاعةَ "فرانس كولتُور" (France Culture) أجْرت الربيعَ الماضي استطلاعًا حولَ الموضوعِ ذاتِه، فجاءت المواصفاتُ الفرنسيّةُ مطابِقةً تلك الّتي وضَعها الأساقفةُ الكينيّيون. ظنّي أنّه لقاءُ القيمِ الثابتةِ وليس انتظامَ العولمةِ الجديدةِ. هذه المواصفاتِ متوفِّرةٌ في لبنان رغمَ أنَّ السياسةَ اللبنانيّةَ تجتازُ مُنخفَضًا أخلاقيًّا. لكنَّ طبيعةَ قانونِ الانتخاباتِ وخوفَ قادةِ الأحزابِ من النُخَب ونوعيّةَ التحالفاتِ وتأثيرَ المالِ، كلّها تَحولُ دونَ أنْ يَقتحمَ أصحابُ هذه المواصفاتِ غِمارَ الانتخاباتِ ويَفوزوا. هكذا، يبدو الشعبُ مُجبَرًا على أنْ يَنتقيَ مِن بينِ الّذين رَشَّحَهم الزعماءُ له سَلفًا (وعمليًّا لهم). وبالتالي، لا يكون الصوتُ التفضيليُّ صوتَ الشعبِ بل صوتَ "الزعيم".