يُحــيّــدون لبنانَ عن تاريخِه ولا يُحــيّــدونَه عن الآخَرين
ونحن نكتشفُ ذواتِنا في هذه العُزلةِ/التجربة ونُنقّيها، حبّذا لو نكتشفُ ذاتَ وطنِنا أيضًا ونُعقّمُها من جميع ما ألصَقنا بها من أوبئةٍ فكريّةٍ وعقائديّةٍ عبر السنوات، وما حمّلناها من مشاريعَ لا تقوى على حَمْلها فصَلبْناها قبلَ أنْ تَبلُغَ تَلَّةَ الجُلجُلة، وقبلَ أن تَلجَ المدينةَ، وقبل أن تَشُقَّ البحرَ بالعصا. اسْترسَلنا في تغييبِ الحقيقة، واغتيابِ التاريخ. أخَذَتنا عادةُ التسوياتِ فرُحْنا نُطبّقها على المبادئِ والثوابتِ وهي فوقَ المساومات. اسْتتبعَ ذلك حالُ اضطهادٍ واستبدادٍ وتشهيرٍ واتّهاماتٍ حتّى ما عاد يَجرؤ أحدٌ أن يُخالفَ الخطأ، فَسادَ الباطلُ ودَرجَت تعابيرُ تُناقِض ما تَربّينا عليه زمنَ الحضارة. لم يَعد هناك فرقٌ بين الاحتلالِ والوصاية، بين الإنماءِ والهدرِ، بين الانتخاباتِ والتعيين، بين الدستورِ والـمُسْودّة، بين الاستقلالِ والتبعيّة، بين شعبٍ وشعبٍ، بين حُرٍّ وعميل، بين مسارٍ ومصير، وبين الفكرةِ اللبنانيّةِ والعروبةِ، والفارسيّةِ أخيرًا. نَسَينا شعراءَنا وقصائدَهم، وكتّابَنا وقِصَصهم، وفلاسفتَنا وأفكارَهم، ومُلحّنينا وأغانيهم، وعظماءَنا وإنجازاتِهم، وشهداءَنا ووصاياهُم. مَحَونا ستّةَ آلافِ سنةٍ بثلاثينَ سنةً... رويدًا. لم نُدَجَّن على الباطل، وأتَت لحظةُ إغلاقِ معابرِ التاريخِ غيرِ الشرعيّة. كيف لبلدٍ مكَوَّنٍ من ثمانيِ عشرةَ طائفةً أنْ يُحجرَ في هُويّةٍ اختزاليّةٍ فيما هُوّيتُه مركّبةٌ، والعربيّةُ أحْدثُها؟ تَكوّنَ لبنانُ مثلما يَتكوّنُ شَهْدُ العَسل: فردًا تِلوَ فردٍ، وجماعةً تلو جماعةٍ، وعِرقًا تلو عِرقٍ، ودينًا تلو دينٍ، وطائفةً تلو طائفةٍ، وقريةً تلو قريةٍ، وإمارةً تلو إمارة، وحضارةً تلو حضارة، ومقاومةً تلو مقاومة، وشهيدًا تلو شهيد، وقيامةً تلو قيامة. نَنتمي إلى محيطِنا ـــ وهذا اعتزازٌ ـــ مثلما تَنتمي نُقطةُ الزيتِ إلى مساحةِ الماء: فيها وليست منها، في وسطِها ولا تذوب فيها. كلُّ من لاذَ إلى لبنان حَمل إليه إضافةً، لكنْ حاشا أنَ يجعلَه مُضافًا. نحن مسلمون غيرَ سائرِ المسلمين، ومسيحيّون غيرَ سائرِ المسيحيّين. لسنا بحاجةٍ إلى أحدٍ لنكونَ نحن. نحن كلٌّ من كُلّ. نحن حالةُ اعترافٍ متبادَلٍ على مدى الزمان. من لا يَعترف بنا أمامَ التاريخ لا نَعترف به أمامَ الحاضر. منذ نصفِ قرنٍ ونحن نتبادَلُ التجافي ونُموِّهُه بالتزلّف. نعيش حالةَ "طوارئ نفسيّة"، نُعيدُ تأسيسَ هُويّتِنا التاريخيّةِ كلَّ مدّةٍ في مؤتمراتٍ مُعلّبةٍ وهيئاتِ حوارٍ عقيمةٍ ووثائقَ ملغومة، وتَكُرُّ التنازلات. مِنّا من يَتنازلُ للداخلِ، ومِنّا من يتنازلُ للخارج. غدًا، لن يَذكرَ التاريخُ هذه الجُزئيّاتِ العابرةَ ولا أصحابَها. سيَسألنا ماذا فعلتم بي؟ لماذا خَجِلتم بأمجادي وتراثي؟ ألم يكن للبنانَ هُويّةٌ لـمّا وَرَد ذِكرُه اثنتي عشرةَ مرّةً في ملحمةِ غلغامش، وأربعًا وسِتّين مَرّةً في التوراة، وستَّ مراتٍ في "نشيد الأناشيد"، ومئاتِ المرّات في الكتابات الفرعونيّة؟ ألم يكن للبنانَ هُويّةٌ يوم اشْتُقَّ اسمُه من البانِ واللبنِ ومن السريانيّةِ (لب أنان) أي "قلبَ الله"، كونَ جبالِه وغاباتِه كانت مَقارَّ لمعابدِ الآلهة ورائحةِ البخور؟ ألم يكن للبنانَ هُويّةٌ حين كان شعبُه يَتكلّمُ الآراميّةَ والفينيقيّةَ والسريانيّةَ والإغريقية؟ ألم يكن للبنانَ هُويّةٌ زمنَ خَطَبَ العربيّةَ وأغناها ودَمجها بالسِريانيّةِ التي تَطغى لهجتُها على العاميّة؟ ألم يكن للبنانَ هُويّةٌ أثناءَ إمارةِ الجبل؟ ألم يكن للبنانَ هُويّةٌ يومَ تَأسَّست دولتُه الحديثةُ ونالت استقلالَها؟ أنقول لهذا التاريخِ العظيم: كنتَ لقيطًا فَوجَدْناك وجَنَّسْناك؟ أيُّ عاقلٍ يَتوهّمُ أنَّ هذا اللبنان انتظَر أواخرَ القرنِ العشرين ليكتشفَ هُويّتَه؟ قبلَ أن يكونَ لبنانُ منارةَ الشرقِ بازدهارِه في القرنِ العشرين، كان منارةَ الشرقِ بكبرياءِ جبالِه منذ القِدَم ("أنفُ حبيبتي كبُرجِ لبنان الناظرِ نحو دمشق" ـــ 4:7 من نشيد الأناشيد). ليست الهُويّةُ خيارًا عقائديًّا بل حتميّةٌ تاريخيّة. هي ما يبقى من تراكمِ الشعوبِ والأزمنةِ والأرض، فلا نُغْفِلنَّ أيَّ حقبة. كيف لا يكون الفينيقيّون، شعبًا وأبجديةً وحضارةً، جُزءًا أساسيًّا من الشخصيّةِ اللبنانيّةِ وهُوّيتِها، وهُم أبناءُ هذه الأرض، واستمرت مدائنُهم ولُغتُهم نحو أربعةِ آلافِ سنةٍ (3000 ق.م. ــ 539 م.)؟ وكيف لا يكون العربُ، مسلمين ومسيحيّين، مكوّنًا فاعِلًا في الهويّةِ اللبنانيّةِ، هُم الّذين استوطنوا سواحلَ لبنان وثغورَه وسهولَه وعَمَّموا على شعبِه لغتَهم وثقافتَهم؟ قلبُ الهويّةِ كبيرٌ، فلا يَستأثِرَنَّ أحدٌ بها. لا قيمةَ ذاتيّةً للبنان من دونِ هويّتِه التاريخيّة. وإذ يُحاول البعضُ طمسَ هذا التاريخِ وتوسيعَ رُقعةِ الاختلافِ بشأنِه، فللاستيلاءِ على الدولةِ وتغييرِ رسالتِها الميثاقيّةِ ونظامِها الديمقراطي وخصوصيّتِها الحضاريّة. يريدون تحييدَ تاريخِ لبنان عن لبنان فيما يَرفضون تحييدَ لبنان عن الآخَرين. يريدون أن "يصنعوا" لبنان من دون تاريخِه ليَخْلعوا عليه تاريخًا جديدًا مزوّرًا. لا يريدون لبنانَ وطنًا قائمًا بذاتِه بل ملحقًا بقوميّاتٍ ومشاريعَ وانتماءاتٍ أخرى. لماذا الإصرارُ على أن يكونَ لبنانُ تابعًا، وليس في التبعيّةِ كرامةٌ؟ ولا في استعارةِ انتماءٍ سيادةٌ؟ ولا في استدانةِ هُويّةٍ استقلال؟ هناك من يُسلّم بهويّةِ لبنان التاريخيّةِ لكنّه يَحصُرُها بالوطن ويَنسُب إلى الدولةِ الهويّةَ العربيّةَ فقط. رغمَ أنَّ ما يُميّزُ الدولةَ هو النظامُ الدستوريُّ أكثرَ من الهُويّة، لا تَقوم دولةٌ على دستورٍ مناقضٍ هُويّةَ الوطنِ التاريخيّة. هُويّةُ لبنان لا تَخرُج من لقاءٍ نيابيٍّ، بل من مَتحفِ بيروت. هناك العُصارةُ والـمَشْهديّة. هناك أَوْدَعت الحضاراتُ تراثَها وعظمتَها وفَنَّها. هناك يُخزّن لبنانُ احتياطَه التاريخيِّ. من تعاقُبِ تلك الآثار نُسِجت هُويّتُنا الوطنيّةُ بخيوطِ التاريخِ الحقيقيّ. زمنُ القَبولِ بتسوياتٍ مخالِفةٍ لتاريخنا ولّى، خصوصًا أنَّ هذه التجربةَ أضَرّت بلبنان ورَمتْه في مَهبِّ التخلّف. لا هُويّةَ لبنانيّةً خارجَ الـــ 10452كلم². ألا نرى هُويّةَ لبنانَ مكتمِلةً وساطعةً في قممِ جبالِه الشرقيّةِ والغربية؟ في بعلبك وصيدا وصور وقانا ووادي التيم؟ في قصورِ الشوفِ وقِلاِعه وأمرائِه ومشايِخه؟ في صخورِ نهر الكلب ومواقع َكسروان؟ في أحياءِ بيروت القديمةِ واكتشافاتِها ومدرسةِ حقوقها؟ في قلاع جبيل والبترون وطرابلس؟ في الأرز ووادي قاديشا ومعابد عكار؟ إلخ... إذا كان المثلُ يقول: "الكنيسةُ القريبةُ لا تَشفي"، فالهويّةُ اللبنانيّةُ تَشفي... وتكفي.