أَنْزلنا الصليبَ وأَبقَينا لبنانَ مصلوبًا
أفكّر بوطني في مناسباتِ الأعيادِ الحزينةِ والسعيدة لأنَّ في دورِ لبنان رسالةَ الأديان. فلبنانُ هو جدليّةُ وجودٍ وموتٍ وقيامةٍ مع فارقٍ أساسيٍّ عن المسيح: نُمِيتُ لبنانَ مرّاتٍ ونُقيمُه مرّات. فريقٌ يُمِيتُه وآخَرُ يُقيمُه، حتى تَعِب منّا الموتُ وضَجِرت منّا القيامة، وبقي الصليب. بين الجمعةِ العظيمة، موتِ المسيح الموقّت، وعيدِ الفصح، قيامةِ المسيح الأزليّة، يجتازُ المؤمنُ أعمقَ تجلّيات الإيمان وأَشَقَّ حالاتِ الشك. الإيمانُ بعظمةِ المسيحيّةِ وتمايزِها: اللهُ يَفتدي البشر. والشكُّ في مُبرِّر الصَلْب وشموليّةِ القيامة. أبناءُ الأديانِ الأخرى يشاركون المسيحيّين في إيمانِهم وشَكّهِم لأنَّ حدثَ الموتِ والقيامةِ يَتعدّى الانتماءَ المسيحيَّ إلى الانتماءِ الإنسانيّ. فـمَن لا يشاركُ المسيحيّين في الإيمانِ يشارِكهم في الشكّ. وهذه بدايةُ اليقينِ واللقاء. هذا هو لبنان. عابقةٌ المسيحيّةُ بالأحداثِ التي تستدعي الشك. المسيحُ أراد ذلك لكي تكونَ المسيحيّةُ فعلَ تجربةٍ وامتحانٍ وتجدّد. كم مرّةٍ امتحَن المسيحُ تلاميذَه بطرس وتوما ولوقا؟ كم مرّةٍ نَعتَهم بقِلّةِ الإيمانِ من دونِ أن يَسحَبَ ثقتَه منهم؟ الشكُّ ملازِمٌ المسيحيّةَ مثلما الخطرُ ملازِمٌ الحركة. إذا فَقدَت المسيحيّةُ شكّها فَقدَ الإيمانُ فضولَه. وإذا فَقدَت المسيحيّةُ أسرارَها وسحرَها تَفقِدُ وضوحَها وشفافيّتَها. تتميَّز المسيحيّةُ عن غيرِها بالأسرارِ لأنّها دينُ تَجسُّدِ الإله. من السِحرِ تُولد العظمةُ، ومن السِرّ يُوحى السؤالُ، ومن السؤالِ يأتي الجوابُ، ومن الجوابِ يَثبُت الإيمان. ولا إيمانَ، إذن، من دونِ عظمةٍ وسرٍ وسحرٍ. ترك لنا المسيحُ عَمْدًا أسرارًا لنكتشفَها: الحبَلُ بلا دنس، الثالوثُ الأقدس، طبيعتُه ومريم العذراء، الصلبُ والقيامةُ، وعجائبُه، إلخ... أوْدعَنا إيّاها لنُكمِلَ صياغةَ إيمانِنا. أبقى لنا حريّةَ مناداتِه: يسوع أو المسيح أو الناصريّ أو عمانوئيل. وزّعَ علينا أوراقًا بيضاءَ لنكتبَ الإنجيلَ الخامس، إنجيلَ المؤمنين الرافدَ في أناجيلِ الرُسل فيكون جُزءًا من المسيحيّة. وَضع لنا المسيحُ التصميمَ وتَرك لنا بناءَ الصَرحِ الإيمانيّ. لم يَدَع المسيحُ إنجازَ التتمّةِ للفلاسفةِ امتيازًا، بل للأطفالِ والناسِ الطيّبين الباحثين عن حقيقةِ العالمِ لا عن الحقيقةِ في هذا العالم. هكذا صار الإيمانُ المسيحيُّ خلاصةَ مفهومِ البشرِ للأسرارِ الإلهيّة. شراكةٌ بين الله والإنسان. كلُّ مؤمنٍ أضاف إلى الإيمانِ إيمانَه، وإلى المسيحِ مسيحَه، وإلى العذراءِ عذراءه، وإلى الأسرارِ أسرارًا أخرى وإلى عظمةِ المسيحيّةِ عظمةً جديدة. هكذا وُضِعَ اللاهوتُ المسيحيُّ وتَعدّدَت تفسيراتُه، ولم يَشعُر أيُّ صاحبِ تفسيرٍ أنّه أساءَ إلى اللهِ وأَضْعف إيمانَه. علاوةً على ذلك، ترك يسوع للشعوبِ التي أتَت لاحِقًا أن تَلتزِمَ معتقداتٍ أخرى وتَتَّبعَ طوائفَ ومذاهب، فلا بدّ لها جميعًا من أن تبلغَ الملكوتَ أو الفردوسَ أو الجنّة. آمَنَ يسوع بالتعدديّة المقرونةِ بمركزيّةِ الغاية النهائيّة. الاستثناءُ الوحيدُ هو اليهوديّة. فالمسيحُ لم يَقتبِل الصليبَ ليُنقذَ الإنسانَ من الخطيئةِ الأصليّةِ فقط. هذا تفسيرٌ لاهوتيّ. بل ليَحسِمَ العلاقةَ مع اليهوديّةِ أيضًا، ويؤكدَ أنْ مع مجيئِه انتهَت صلاحيّةُ دورِها الدينيَّ. لا تعددّيةَ مع اليهوديّةِ لأنّها تَنقُض مجيءَ المسيح. بعدَ المسيحِ لم يَعُد العهدُ القديمُ المرجِعَ الإيمانيَّ الأساسيَّ بقدْر ما صارَ فَهرَسًا تاريخيًّا. صحيحٌ أنَّ المسيحَ جاء ليُكمِلَ لا ليَنقُضَ، لكنَّ اليهودَ نَقضوه ما أجازَ له أن يَنقُضَ في "عظةِ الجبل" عمومَ تعاليمِ العهدِ القديم. وعلى خطى المسيح، نَنقُض مَن يَنقُضنا. لذلك، لو لم أكن مسيحيًّا لاخْترتُ المسيحيّةَ ديني. لحسدتُ المسيحيّين على يسوعَ المسيح والرُسل، على مريمَ العذراء ويوسف، على الإنجيلِ ورسائلِ مار بولس، على القدّيسين والطوباويّين، وعلى المبشّرين والشهداء. لحَسَدتُهم على عظمةِ الحضارةِ المسيحيّةِ وعمقِ ثقافِتها وغنى تراثِها الأرضيّ أيضًا. لحَسدتُهم على التقدّمِ الذي أحْرزوه مدى التاريخِ، ونجاحِهم أخيرًا في الفصلِ بين الكنيسةِ والدولة. ولأنّي مسيحيٌّ اخترتُ لبنانَ التعدديَّ للحياةِ مع الآخَر، بل مع ذاتي الأُخرى، مع المسلمِ والدُرزي. هؤلاء وَجْدي ومَشرِقي. تَخطيتُ مجازرَ القرنِ التاسع عشَر، وذِمّيةَ القرونِ السابقة. رغم كلِّ الاضطهادِ الذي عاناه جيلي والأجيالُ المسيحيّةُ السابقة (على أيدي مسيحيّين أحيانًا) لم تَعِنّ على بالي جِديًّا الدعوةُ إلى وطنٍ قوميٍّ مسيحيّ. كلما كانت التجربةُ تناديني أثناءَ الحرب، صَرختُ: "إلهي أَبعِد عنّي هذه الكأس". نحن المسيحيّين اللبنانيّين والمشرقيّين جُزءٌ من بيئةِ الإسلامِ، والإسلامُ جُزءٌ من إيمانِنا. مثلُ المسيحيّةِ، في لبنانَ سِحرٌ وأسرارٌ وعظمة. أغوانا اللقاءُ في الحرّيةِ والديمقراطيّة والاستقلالِ والكرامة، جَذَبَنا جِوارُ الكنائسِ والجوامعِ والخَلوات، شَدّنا مجدُ التاريخ أكثرَ من أحداثِه، عَقدْنا ميثاقًا مع المستقبلِ والتحضّرِ وراهَنّا على موتِ الغرائز مع الوقتِ وقيامةِ المحبة. لبنانُ التعدديُّ ليس حالةً وطنيّةً فقط بل حالةٌ إيمانيّةٌ أيضًا. الدين المنعزِلُ والمنزوي مثلُ الدينِ التوسّعيِّ والمتسلِّط. فارقٌ كبيرٌ بين الانتشارِ التبشيريِّ الشرعيّ والتوسّعِ العسكري القابلِ النقض. بَيدَ أنَّ خِيارَ لبنان التعدّديِّ حَملَ تحدّيَين: قدرةُ الأديانِ على التعايشِ من دونِ هيمنةٍ، وقُدرةُ المواطنين على الولاءِ للوطنِ من دون إشراك. فيكون ولاؤنا جميعًا للبنان وحده؛ ومَن اشَتهى نظامَ قريبه ارتَكَب الزِنى الوطنيّ. نحن اللبنانيّين أهلُ الشرقِ وشروقُه، نحن حضارتُه وحَرفُه، نحن عقلُه وقلبُه. وَضعْنا في هذا الشرقِ استثماراتِنا العقليّةَ وتعاليمَنا الروحيّة. زَرعنا في هذا الشرقِ محبّةَ الآخَر، ومفهومَ الشراكةِ، وتلازمَ الأمنِ والحرية. أنْبتنا في هذا الشرقِ روحَ الصمودِ والمقاومة. ما خَشِينا مملكةً ولا اجتياحًا ولا سلطنة. ما رَهِبنا مُدجَّجًا ولا مُدرَّعًا ولا مُكفِّرًا. ما تَهيَّبنا هيمنةً ولا وصايةً ولا احتلالًا. نحن أورشليم قبلَ الفاتيكان، والقدسُ قبل رام الله. نحنُ الشامُ قبل معاوية، ومعاويةُ قبل العثمانيّين. نحن المدائنُ الفينيقيّة قبل بيروت، وبيروت قبلَ كلِّ المدائنِ العربيّة. نحن الإمارةُ والجُمهورية. نحنُ الوطنُ "الموضوعُ على جَبل" والمنشورُ على الشاطئ. عظيمٌ أن نكونَ فخورين بأنفسِنا، لكنَّ الأهمَّ أن نَبنيَ دولةً، وأن يكونَ لبنانُ فخورًا بسلوكِنا.